وقد أردنا بعرضها أن نصور احتدام المناظرات فى العصر وأنها تناولت كل جوانب المعرفة.
وحتى الكتب المؤلفة فى العصر نجد عليها مسحة المناظرة والجدل واضحة، حتى على عنواناتها، إذ كثيرا ما تعنون بكلمة الرد أو كلمة النقض، فالكتاب يؤلّف ردّا أو نقضا لكتاب آخر، وكأن المناظرات لم تقف عند المجالس والمحاضرات فى المساجد. بل امتدت إلى الكتب والمصنفات، ويوضح ذلك الجاحظ فى بعض كتبه ورسائله، فقد بنيت فى جمهورها على فكرة المناظرات إذ نرى الحيوان» يبنى على مناظرة امتدت إلى أكثر من مجلد بين معبد والنظام فى الكلب والديك أيهما أفضل؟ . وله كتاب افتخار الشتاء والصيف وهو مناظرة واضحة بين الفصلين، وكتاب الفخر ما بين عبد شمس ومخزوم، وهو مناظرة بين العشيرتين القرشيتين، وكتاب فخر القحطانية والعدنانية وهو مناظرة بين اليمنية والمضرية. وقد يمدح الشئ فى رسالة ثم يدمحه فى أخرى، وكأنه يكتب مناظرة فى رسالتين مثل رسالته فى مدح النبيذ ورسالته فى ذم النبيذ ومثل رسالته فى مدح الكتّاب ورسالته فى ذم الكتّاب، ومثل رسالته فى مدح الورّاق (بائع الكتب) ورسالته فى ذم الوراق وله كتب مختلفة يجعل عنوانها كلمة الرد مثل كتاب الرد على المشبّهة وكتاب الرد على النصارى وكتاب الرد على اليهود، وله كتاب العثمانية وكتاب الرد على العثمانية.
وله كتاب نقض الطب ومن رسائله التى أدارها على المناظرة رسالته «فخر السودان على البيضان» ورسالته «مفاخرة الجوارى والغلمان». وقد لا توضع فكرة المناظرة أو الرد والنقض أو المدح والذم على الكتاب والرسالة، فإذا قرأنا فيهما وجدناهما يأخذان شكل مناظرة كبيرة مثل كتاب التربيع والتدوير، نراه فيه ينتصر للقصر تارة وللطول تارة ثانية، وتارة ثالثة للتوسط بين الطرفين المتناقضين.
وكأنما كانت المناظرات والمحاورات لغة العصر الفكرية، فدائما مناظرات ومجادلات فى كل مكان وفى كل موضوع علمى أو فلسفى أو أدبى. والمناظر ينتصر تارة، وتارة ينهزم فى تلك الساحة الفكرية الكبيرة: بغداد، وهم لا يكلّون ولا يملّون ولا يتوقفون فدائما جدل وحوار وتشعيب لدقائق المعانى وغوص على خفياتها وكوامنها