المستورة، ولا يمنع الانهزام يوما صاحبه من التجمع للمناظرة والتحفز للحوار فى يوم ثان أو لقاء ثان، بل قد ينهزم المناظر وينتصر فى المجلس الواحد مرارا، وفى هذا الحوار الواسع ومعاركه الدائرة دون توقف يقول ابن الرومى مشيرا إلى المتناظرين وجدالهم العنيف:
لذوى الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجور
وهم كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكلّ كاسر مكسور
ويبدو ابن الرومى نفسه فى شعره مناظرا كبيرا، إذ تطبع جوانب من شعره كما أسلفنا-بطوابع الجدال وما يطوى فيه من قدرة وبراعة على نسج الأدلة تارة ونقضها تارة أخرى. ومرّ بنا ذمه للورد ونقضه محاسنه وقلبها مساوئ ذميمة فى قصيدته «النرجس والورد» وهى مناظرة شعرية طريفة.
وتسرى هذه الروح فى قصص وحكايات وأخبار جمعت ونسّقت فى الكتاب المسمى بكتاب المحاسن والأضداد المنسوب خطأ إلى الجاحظ، لأنه يفتتح بكلمة:«قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» وتتوالى نقول عنه فى فضائل الكتب ووصف فوائدها، نجدها مبثوثة فى كتاب الحيوان. ولعل هذا الاستهلال هو الذى جعل القدماء يظنون أن الكتاب من تأليف الجاحظ، وأيضا فإنه ينقل عنه فى بعض فصوله نقولا مختلفة، ولكن من يعرف أسلوب الجاحظ المطّرد فى كتبه يعرف توّا أن الكتاب ليس له، والطريف أن صاحبه ذكر فى مستهله عن الجاحظ قوله فى بعض رسائله: «إنى ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن فى الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسى فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد المركّب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته، وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفا لملك معه المقدرة على التقديم والتأخير والحطّ والرفع والترهيب والترغيب فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة. . . وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوبا إلىّ وموسوما بى. وربما ألفت الكتاب الذى هو دونه فى معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيرى وأحيله على من تقدمنى عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة ويحيى بن