للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«أنا مقرّ معترف، فما تراك صانعا بمن أعلقك زمامه، وأمكنك من قياده، وحكّمك فى أمره، معاقبا له أو متفضّلا عليه بالعفو عنه؟ لكنى أرجو أن أستقبل طاعة لا تمتنع من شكرها، واغتفار كل تقصير خلا فى جنبها، فالأيام بما تحبّ أمامك».

والقطعة قصيرة، ولكنها على كل حال تصوّر صياغة جزلة رصينة، كما تصوّر ذوقا مهذبا فى الاعتذار والاستعطاف، حتى ليجعل زمامه وقياده بيد صديقه ويحكّمه فى أمره، وله الخيار إما أن يعاقب، وإما أن يتفضل بالعفو. وكان يكتب بين يديه حين وزر للمعتمد أبو العباس أحمد بن ثوابة، وهو من أعلام الكتّاب فى العصر، وسنخصه فى الفصل التالى بحديث مستقل.

وكان يلى وزارة المعتضد عبيد الله بن سليمان بن وهب. وفيه يقول الفخرى (١):

«من كبار الوزراء ومشايخ الكتاب، وكان بارعا فى صناعته حاذقا ماهرا لبيبا جليلا، ماتت للمعتضد جارية كان يحبها فجزع عليها، فقال له عبيد الله بن سليمان: «مثلك-يا أمير المؤمنين-تهون المصائب عليه، لأنك تجد من كل مفقود عوضا، ولا يجد أحد منك عوضا، وكأن الشاعر عساك بقوله:

يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل»

وليس بين أيدينا من رسائل عبيد الله الديوانية إلا رسالة كان قد أمره المعتضد بإنشائها فى لعن معاوية، حتى يقرأ بها الخطباء بعد صلاة الجمعة على المنابر، وقد استهلّها عبيد الله بالتحميد قائلا (٢):

«بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله العلى العظيم. الحليم الحكيم العزيز الرحيم. المنفرد بالوحدانية. الباهر بقدرته. الخالق بمشيئته وحكمته، الذى يعلم أسرار الصدور وضمائر القلوب لا تخفى عليه خافية. ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فى السموات العلا. ولا فى الأرضين السّفلى، قد أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عددا، وضرب لكل شئ أمدا. وهو العليم الخبير.

والحمد لله الذى برأ خلقه لعبادته. وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه فى


(١) الفخرى ص ١٨٩.
(٢) طبرى ١٠/ ٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>