للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العبادى، فقد تحولا بها من هذا الباب إلى وصفها فى ذاتها وصفا طريفا.

ومن الموضوعات التى تتصل اتصالا واضحا بالحماسة الرثاء، فقد كانوا يرثون أبطالهم فى قصائد حماسية يريدون بها أن يثيروا قبائلهم لتأخذ بثأرهم (١)، فكانوا يمجدون خلالهم ويصفون مناقبهم التى فقدتها القبيلة فيهم، حتى تنفر إلى حرب من قتلوهم. وكان يشرك الرجال فى ذلك النساء، فقد كن ما يزلن ينحن على القتيل حتى تثأر القبيلة له. ويظهر أنه كان يشيع عندهم ضرب من (التعديد) الذى نعرفه فى مصر، فما تزال امرأة تنوح ويرد عليها صواحبها، وقد حدثنا الرواة أن الخنساء كانت تخرج إلى عكاظ فتندب أخويها صخرا ومعاوية، وكانت هند بنت عتبة أم معاوية تحكيها نائحة أباها (٢). وفى هذا الخبر ما يدل على أن النساء لم يكن يندبن موتاهن يوما أو أياما، بل كن يطلن ذلك إلى سنين معدودات، ويقال إنهن كن يحلقن شعورهن ويلطمن خدودهن بأيديهن وبالنعال والجلود، وكن يصنعن ذلك على القبر وفى مجالس القبيلة والمواسم العظام. ولعل فى حلق رءوسهن ما يجمع بينهن وبين الهجائين كما قدمنا وما يشهد بأن هذا الرثاء إنما هو تطور عن تعويذات كانت تقال للميت وعلى قبره حتى يطمئن فى لحده. وبمر الزمن تطور الرثاء عندهم إلى تصوير حزنهم العميق إزاءما أصابهم به الزمن فى فقيدهم، فتلك التعويذات أصبحت وخاصة عند نسائهم بكاء ونواحا وندبا حارّا. ونجد بجانب هذا الندب ضربا من الرثاء يقوم على تأبين الميت والإشادة بخصاله وصفاته، وما نشك فى أن الصورة القديمة لهذا التأبين هى تلك النقوش التى عثروا عليها فى أنحاء مختلفة من الجزيرة، وقد تحدثنا عنها فيما أسلفنا، وكانوا يكتبون فيها أسماءهم وألقابهم وبعض أعمالهم تمجيدا لذكراهم وتخليدا لها، وتحولت هذه الصورة الساذجة إلى هذا التأبين الواسع الذى نجده عند الجاهليين. وقد ذهبوا يضمون إليه صورة من العزاء والدعوة إلى الصبر على الشدائد، فالموت كأس دائرة على الجميع، ولا مردّ لحكم القضاء.

وقام بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه النساء، فكن يشققن جيوبهن عليه ويلطمن وجوههن ويقرعن صدورهن ويعقدن عليه مأنما من العويل والبكاء، ومن خير ما يصور ذلك كتاب «مراثى شواعر العرب» للويس شيخو، وسابقتهن


(١) المفضليات رقم ١٠٩.
(٢) الأغانى (طبعة دار الكتب) ٤/ ٢١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>