للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخذ كل ما يصدر عن الخليفة منذ سنة ٣٠٠ للهجرة يوشّى بالسجع (١)، وبالمثل ما يصدر عن وزرائه وفى مقدمتهم ابن الفرات. وكان على بن عيسى الوزير لا يقل عناية عنه بالسجع، وقد ذكر له الهلال مجموعة كبيرة من رسائله كلها مسجوعة. ومثله وزير المقتدر الثالث الخاقانى، فقد كان شغوفا بالسجع شغفا شديدا، وتروى له فى ذلك نوادر كثيرة، منها أن عامل النيل أحد فروع الأنهار فى العراق تأخر فى حمل غلّة إليه، فكتب إليه هذه العبارات: «احمل الغلّة، وأزح العلّة، ولا تجلس متودّعا فى الكلّة (الستر)» ولا حظ أنه قد حشر الكلة فى الكلام لاستكمال السجع، فالتفت إلى الكاتب وقال له: أفى النيل بق يحتاج إلى كلل؟ فقال له الكاتب مداجيا مرائيا: إى والله وأى بقّ، ومن أجله يلزم الناس الكلل ليلا ونهارا (٢). ووقّع فى رسالة وجّه بها إلى بعض عمّاله:

«الزم-وفّقك الله المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحمل ما أمكن من الدّجاج، إن شاء الله»، وكان أن حمل العامل إليه دجاجا كثيرا، فقال: هذا دجاج وفّرته بركة السجع (٣). وكان الولاة يقلدون الوزراء فى هذا البدع الجديد فقد ذكر الرواة أن الوالى على كور الأهواز كتب إلى على بن عيسى كتابا سجع فيه، فكتب إليه وقد صمّم على عزله: «عوّلت بنا على كلام ألّفته، وخطاب سجّعته أوجب صرفك عما توليته (٤)».

وكان كتّاب الدواوين على شاكلة الوزراء يسجعون فى كتاباتهم، وفى مقدمتهم محمد بن جعفر بن ثوابة القائم على ديوان الرسائل لعهد المقتدر والمتوفى سنة ٣١٢، وكان فى باكورة حياته يكتب بين يدى عبيد الله بن سليمان بن وهب، وكلّفه أن يجيب على كتاب خمارويه حين أنفذ ابنته إلى المعتضد، فقال فى الفصل الذى احتاج فيه إلى ذكرها:

«وأما الوديعة فهى بمنزلة شئ انتقل من يمينك إلى شمالك، عناية بها، وحياطة عليها، ورعاية لمودتك فيها»، ورآه عبيد الله يعجب بهذه العبارات،


(١) تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن ص ٣٣٧ وما بعدها.
(٢) تاريخ الوزراء ص ٢٧٧.
(٣) نفس المصدر والصفحة.
(٤) تاريخ الوزراء ص ٣٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>