للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقدرة أبى على البصير على اختيار الألفاظ بارعة، فقد كان يعرف كيف يختار مفرداته وكيف يؤلف بينها تأليفا حسنا، يجرى فيه التقابل والتوازن، وإن لم يجر فى هذه الرسالة السجع، ولكن يجرى فيها ماء ورونق. وهو لم يسق فى مديح عبيد الله عبارات طنانة فحسب، بل ساق معانى سياسية جيدة، فهو رءوف بالشعب حدب عليه، وحقّ كل فرد فوق حق الخليفة نفسه، مدبر حازم.

مترفع عن الصغائر، فى تواضع لا يسفّ به إلى الدنيات دون تكلف. لا يؤذى محقا وإن كان عدوّا، ولا يسرّ مبطلا وإن كان صديقا. والرعية جميعها تحبه وتثنى عليه لسيرته وفضائله الطيبة. وله رسالة مسجوعة تدخل فى العتاب أو بعبارة أدق فى الهجاء كتب بها إلى أبى العيناء منافسه فى منادمة الخلفاء والوزراء، وفيها يقول (١):

«من أبى على البصير، ذى البرهان المنير، المبلغ فى التحذير، المعذر فى النكير، إلى أبى العيساء الضّرير، ذى الرأى القصير، والخطل الكثير، والإقدام بالتعيير، سلام على المخصوصين بالسلام، من أجل حقيقة الإسلام، المؤمنين بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام، فإنى أحمد الله إلى نفسه وأوليائه من خلقه، على ما هدانى من دينه، وعرّفنى من حقه، وامتنّ علىّ به من تصديق رسله. . . أما بعد فإنك الرجل الدقيق حسبه، الرّدئ مذهبه، الدّنئ مكسبه، الخسيس مطلبه، البذئ لسانه، المبتلى به إخوانه. . . قد صيّرت القحة (الوقاحة) جنّة (وقاية) وشتم الأعراض سنّة. . . صديقك على وجل منك إن شاهدته عافك، وإن غبت عنه خافك، تسأله فوق الطاقة، وترهقه عند الفاقة (الفقر) فإن اعتذر إليك لم تعذره، وإن استنظرك لم تنظره (تمهله) وإن أنعم عليك لم تشكره، لا تزيدك السنّ إلا نقصا، ولا يفيدك الغنى إلا حرصا. . . وتعرض للناس بالسؤال، غير محتشم من الإملال. . . من أطاعك فى ماله حربته (سلبته)، ومن منعك بعذر واضح سببته. . . ومن أكرمك أهنته وتطاولت عليه، ومن أهانك استكنت له ولنت فى يديه. . . إرثك عن أبيك السعاية، ونقل الأخبار والوشاية».


(١) جمهرة رسائل العرب ٤/ ١٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>