للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«نبت بى عنك غرّة (غفلة) الحداثة، فردّتنى إليك التجربة، وباعدتنى عنك الثقة بالأيام، فأدنتنى إليك الضرورة ثقة بإسراعك إلىّ، وإن أبطأت عنك، وبقبولك لعذرى وإن قصّرت عن واجبك. وإن كانت ذنوبى قد سدّت مسالك الصّفح عنى، فراجع فىّ مجدك وسؤددك. وإنى لا أعرف موقفا أذلّ من موقفى، لولا أن المخاطبة فيه لك، ولا خطّة أدنى من خطّتى، لولا أنها فى طلب رضاك».

والرسالة محكمة، وكل عبارة كأنما حاكتها أو قل صبّتها فى قالبها يد صناع وحقّا لم يحلّ الرسالة بالسجع، ولكن العبارات كلها كأنها حلى مختارة، سواء فى اصطفاء الألفاظ، أو فى توشيئها بألوان البديع، فالغرة أمام التجربة، والبعد أمام الدنو، والسرعة أمام البطء. ثم تتعاقب الاستعارات والصور، فالذنوب قد سدّت بحجاب غليظ دروب الصفح وممالكه، وهو يتوسل أن يراجع فيه مجده وسؤدده. ثم يأتى التلطف وقبول الذل وكأنه يقبله من حبيب. وله رسالة جيدة فى تعزية سليمان بن وهب عن أخيه الحسن حين لبّى نداء ربه، ونكتفى منها بهذه الفقرة (١):

«إن الرّمض (حرقة الغيظ) والهلع إنما يكونان للمصيبة الخاصة التى لا تعدو صاحبها، ولا يجد مسعدا (معينا) عليها، ولا شريكا فيها، وقد أعانك الله على مصيبتك بالواشج (المشتبك) رحما بك والبعيد نسبا منك، وجمع فى ثقل محملها وألم فجعها صديقك وعدوّك، وكلّ مكتس منها سربال وحشة، ومنطو على دخيل حزن، وناظر من أعقابها فى منظر وعر، فجميعهم فيها مشترك، وأنت بالتعزّى حقيق قمين».

والقطعة كالرسالة السابقة، ألفاظها محكمة، ويجرى فيها الطباق والتقابل والاستعارات والصور والرّصف الدقيق للعبارات، فالنسج متين، وعليه ألوان وصور تلفت الأذهان. ومن الكتّاب البلغاء أحمد بن سليمان بن وهب، وهو من بيت كتابة، كان أبوه وعمه الحسن من البلغاء المفوهين، وله فى الصداقة رسالة كتب بها إلى بعض أصدقائه، وفيها يقول (٢):


(١) جمهرة رسائل العرب ٤/ ٢٤٨.
(٢) معجم الأدباء ٣/ ٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>