أبو الجهم، فأمر ابن الزيات بردّ حربته إليه وانتظامه فى حاشيته وبلاطه مصونا، فبسط لسانه فى غريمه ونظم فيه أشعارا كثيرة ذامّا هاجيا. وقد يكون ما حدث بينه وبين ابن الزيات هو الذى جعل المتوكل يقرّبه منه منذ أول عهده بالخلافة، فقد كان بدوره ينقم على ابن الزيات أشياء كثيرة، فلم يكد يتقلّد الخلافة حتى صادر أمواله، وعذبه فى تنّور ملئ بمسامير من الحديد حتى مات.
وأصبح إبراهيم بن العباس حظيّا عند المتوكل، فقلّده ديوان رسائله ودواوين مختلفة، وظل حتى وفاته يكتب عن المتوكل كل الكتب التى تصدر عنه، سواء أكانت منشورات أم عهودا لأولياء العهد أم فتوحا أم تهنئات بالأعياد أم تعازى باسم الخليفة، وأحيانا ينصّ الطبرى أن هذا الكتاب أو ذاك من إنشائه، وأحيانا لا ينص. ومن أوائل ما كتب له المنثور الموجّه إلى عمّاله فى الآفاق بشأن النصارى وأهل الذمة وأخذهم بلبس الطّيالسة والزّنانير، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع، وهو يستهله على هذه الشاكلة (١):
«بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن الله تبارك وتعالى بعزّته التى لا تحاول وقدرته على ما يريد، اصطفى الإسلام، فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيّد به أولياءه، وكنفه بالبرّ، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرّأ من الشبهات، معصوما من الآفات، محوّا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله بما أحلّ لهم من حلاله، وحرّم عليهم من حرامه، وبيّن لهم من شرائعه وأحكامه، وحدّ لهم من حدوده ومناهجه، وأعدّ لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال فى كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حضّ عليه فيه ووعظ: {(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)»}.
وواضح من هذا الاستهلال للمنشور مدى ما كان يأخذ به إبراهيم بن العباس نفسه من الاحتفال بصناعة الكلام. فهو لا يكتب ما يرد على ذهنه عفوا،