للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل هو يفكر فيما يكتب. ويختار له الألفاظ الجزلة الناصعة محدتا بينها ضروبا من التلاؤم بحيث يبدو كلامه مقطّعا، وإن لم يتخذ شكل تقطيع السجع، وهو بذلك أقرب إلى ذوق أسلوب الازدواج الذى يوازن بين العبارات دون أن يحيلها سجعا وتنميقا خالصين. وكان من أحداث خلافة المتوكل ثورة إسحق بن إسماعيل فى شمالىّ أرمينية وإحراقه لمدينة تفليس سنة ٢٣٨ وقد نازلته جيوش المتوكل، وهزمته هزيمة ساحقة، وأخذ أسيرا، فضربت عنقه وصلبت جثته وحمل رأسه إلى سامرّاء. ولإبراهيم بن العباس رسالة فى هذا الفتح نوّه بها القدماء، وفيها يقول (١):

«قسّم الله عدوّه أقساما ثلاثة: روحا معجّلة إلى عذاب الله، وجثّة منصوبة لأولياء الله، ورأسا منقولا إلى دار خلافة الله، استنزلوه من معقل إلى عقال (أغلال) وبدّلوه آجالا من آمال، وقديما غذّت المعصية أبناءها، فحلبت عليهم من درّها (لبنها) مرضعة، وبسطت لهم من أمانيها مطمعة، وركبت بهم مخاطرها موضعة (مسرعة) حتى إذا وثقوا فأمنوا، وركبوا فاطمأنوا، وانقضى رضاع وآن فطام، سقتهم سمّا، ففجّرت مجارى ألبانها منها دما، وأعقبتهم من حلو غذائها مرّا، ونقلتهم من عز إلى ذل، ومن فرحة إلى ترحة، ومن مسرّة إلى حسرة، قتلا وأسرا، وغلبة وقسرا، وقلّ من أوضع (أسرع) فى الفتنة مرهجا (مثيرا) واقتحم لهبها مؤجّجا، إلا استلحمته (تبعته) آخذة بمخنّقه (بحلقه) وموهنة بالحق كيده حتى جعلته لعاجله جزرا، ولآجله حطبا، وللحق موعظة، وعن الباطل مزجرة، أولئك لهم خزى فى الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر، وما ربك بظلاّم للعبيد».

وبلاغة الصولى التى اشتهر بها واضحة فى هذه الرسالة، فهو يعنى بكلامه محمّلا له معانى غزيرة، ومطرفا فيه بكل ما يستطيع من تقسيم على نحو ما صنع أول هذه الفقرة. وهو يضيف إلى ذلك مقابلة بين المعانى تنتهى إلى الطباق، فقد كان إسحق بن إسماعيل فى معقل فأصبح فى عقال، وكان فى آمال وحياة رغدة فأصبح فى آجال وموت رهيب. ويضيف إلى ذلك الصور، فقد أرضعتهم


(١) مروج الذهب ٤/ ٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>