للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانوا يكثرون من تأبين من يموتون منهم فى ميادين الحرب، وقد يضمنون هذا التأبين هجاء لاذعا لخصومهم وفخرا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها، على نحو ما نجد فى قصيدة المرقش (١):

هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقا كلّم

فقد بدأها بالغزل وخرج منه إلى الرثاء، فمديح بعض ملوك الغساسنة، ثم فخر بقومه، وهجا أعداءهم. وقد يجعلون القصيدة خالصة للتأبين، على نحو ما صنع دريد بن الصمة فى مرثية أخيه عبد الله (٢).

أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد ... بعاقبة وأخلفت كلّ موعد

وقد استهلها على هذه الشاكلة بالغزل، ثم مضى يرثى أخاه مصورا مصرعه وولهه به وجزعه ومتحدثا عن خلاله الحميدة من الشجاعة والجود والمضاء والصبر والحزم.

ولم يؤبنوا أبطالهم من القتلى فحسب، بل فسحوا فى مراثيهم لتأبين أشرافهم وإن ماتوا حتف أنوفهم، فخرا بهم واعتزازا بمناقبهم وأعمالهم ومآثرهم، وقد نجدهم يستنزلون لهم الغيث من السماء حتى تصبح قبورهم رياضا عطرة، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كلدة الأسدى، وفيها يقول (٣):

أيّتها النفس أجملى جزعا ... إن الذى تحذرين قد وقعا

إن الذى جمّع السماحة ... والنّجدة والحزم والقوى جمعا

الألمعىّ الذى يظنّ لك ال‍ ... ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا (٤)

المخلف المتلف المرزّأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا (٥)

أودى وهل تنفع الإشاحة من ... شئ لمن قد يحاول البدعا (٦)


(١) المفضليات ص ٢٣٧.
(٢) الأصمعيات ص ١١١، أرث: أخلق. بعاقبة: بآخرة.
(٣) ديوان أوس بن حجر ص ٥٣ والأغانى ١١/ ٧٤.
(٤) الألمعى: حاد الذكاء، يريد أنه يحدس الأمور فلا يخطئ وأنه فطن صادق الظن جيد الفراسة.
(٥) المرزأ: الذى تصيبه الرزايا فى ماله لكرمه، يمتع: يصاب، الطبع: اللئيم.
(٦) أودى: مات، الإشاحة: الجد فى طلب الشئ، البدع: الأمور الغريبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>