آى الذكر الحكيم. وبالمثل كان مشغولا عن الجناسات والطباقات والصور إلا ما جاء فى النادر وعفو الخاطر. ومن تحميداته فى أحد الفتوح (١):
«الحمد لله الغالب ذى القدرة، والقاهر ذى العزّة، الذى لم يقابل بالحق باطلا فى موطن من مواطن التحاكم بين عباده إلا جعل أولياء الحق منهم حزبه وجنده، وجعل الباطل بهم فلاّ (هزيما) منكوبا، ودحيضا (باطلا) زهوقا إن نهض به أولياؤه كانت مراصد عواقبه مفرّقة ما جمع، ومبتّرة (مستأصلة) ما أعدّ، وقائدة بأشياعه إلى مصرع الظالمين، حتى يكون الحق الطالب الأعزّ والباطل المطلوب الأذلّ، وأولياء الحق الأعلين يدا وأيدا (قوة) وأشياع الضلال الأخسرين أعمالا وكيدا، قضاء الله وسنته، وعادة الله وإرادته، فى الفئة المنصورة أن تعزّ فلا ترام، وأن يمكّن لها فى الأرض كما مكّن للذين من قبلها، وفى الفئة الناكبة عنه أن تذلّ، فتكون كلمتها السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم».
ونحسّ قدرته على اصطفاء الكلمات فى هذا التحميد، ولا نصل إلى قوله:
«وجعل الباطل بهم فلاّ منكوبا ودحيضا زهوقا»، حتى يتجسّد لنا هذا الاصطفاء وأن الكاتب يعنى بالموازنة الدقيقة بين العبارات. ويتضح لنا ذلك أكثر حين نصل إلى قوله:«يكون الحقّ الطالب الأعزّ، والباطل المطلوب الأذلّ، وأولياء الحق الأعلين يدا وأيدا، وأشياع الضلال الأخسرين أعمالا وكيدا» وكأن العبارات توضع فى صفوف لا فى سطور، لتأخذ كل كلمة بيد أختها، وكأننا فى مرقص للكلمات تتشابك فيه أيديها، فكل كلمة توشك أن تمسك بيد أختها فى العبارة التالية لعبارتها. فكلمة الحق تتلاقى مع كلمة الباطل، وتتلاقى كلمة الطالب مع كلمة المطلوب وكلمة الأعز مع كلمة الأذل. وبالمثل تتلاقى فى العبارتين التاليتين كلمة الحق وكلمة الضلال وكلمة الأعلين يدا وكلمة الأخسرين أعمالا.
فالكلمات فى العبارات تتجاذب تجاذبا شديدا، فى الصوت والجرس والأداء وفى المعانى المتقابلة المتناقضة، فقد عمّ فيها الطباق وكأنما أحدث بكثرته بينها نوعا من صلة القربى ووشائج الرحم. وانظر كيف وضع إبراهيم بن العباس كلمة «يدا»