للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بجانب كلمة «أيدا» طلبا للتلاؤم فى الجرس الذى قد يخفى أحيانا، وأحيانا يتضح وضوح الشمس فى كبد السماء. وفى ذلك ما يدل بوضوح على مدى إحكامه لصنعة الكتابة وقدرته على اختيار اللفظ وانتخابه بحيث يروق اللسان والجنان. وينهى الرسالة باقتباس من القرآن الكريم، ويكثر عنده اصطناعه لبعض ألفاظه المونقة كقوله فى هذا التحميد: «الأخسرين أعمالا». ودائما نحس عنده القدرة على استخدام العبارة المطنبة والأخرى المجملة الموجزة، حتى لكأنما يصوغ أمثالا كما أشرنا إلى ذلك آنفا. ومن خير ما يصوّر ذلك عنده رسالة كتب بها لسنة ٢٤٠ عن المتوكل إلى أهل حمص حين ثاروا على عامل المعونة وقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم، والرسالة تمضى على هذا النمط (١):

«أما بعد فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه، مما قوّم به من أود (عوج) وعدّل به من زيغ، ولمّ به من منتشر، استعمال ثلاث، يقدّم بعضهن على بعض، أولاهنّ ما يتقدّم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التى لا يقع حسم الداء بغيرها:

أناة فإن لم تغن عقّب بعدها ... وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه»

وقرأ إبراهيم بن العباس الرسالة على المتوكل فملأت نفسه إعجابا، وأومأ إلى وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان-وكان حاضرا-أما تسمع؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن إبراهيم فضيلة خبأها الله لك، وذخيرة ذخرها على دولتك. ويقال إن البيت فى هذه الرسالة أول شعر نفذ فى كتاب عن الخلفاء العباسيين. والمتوكل إنما أعجب بالرسالة لأن إبراهيم أدّى الغرض الذى كانت تكتب فيه الرسائل الطويلة بأوجز عبارة دون أى تقصير ودون أى إخلال، بل مع الوفاء به إلى أبعد حد.

وكأننا لا نقرأ صيغا متعاقبة فى رسالة، وإنما نقرأ حكما وأمثالا، لدنة المعانى ودقة أدائها وصياغتها، وقد أجرى فيها ضروبا من النقطيعات الصوتية، وإن لم تأخذ الصورة النهائية على نحو ما يتضح فى أوائلها، ولم يلبث أن أضاف فيها سجعة طريفة، كما أضاف صورة بديعة إذ عبّر عن الحرب بحسم الداء. والكتاب بحق


(١) معجم الأدباء ١/ ١٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>