للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجرّت رغبة الجاحظ فى أن يتخلّل كتاباته بالنوادر وما يطرف القارئ رغبة مماثلة فى أن يورد فى تضاعيف كتاباته بعض آى القرآن وبعض الآثار والأخبار وبعض الأشعار والحكم، مما أشاع فى رسائله وكتبه كثرة الاستطراد، وكان يقصد إليه قصدا ويتخذه مذهبا فى كتابته، حتى لا يملّ القارئ، وحتى يظل له نشاطه وإقباله على ما يكتبه، وهو يعلن ذلك مرارا فى كتبه، كقوله فى كتاب الحيوان: «قد عزمت-والله الموفّق-أنى أوشّح هذا الكتاب وأفصّل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب ومن شكل إلى شكل فإنى رأيت الأسماع تملّ الأصوات المطربة والأغانى الحسنة والأوتار الفصيحة إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلا فى طريق الراحة التى إذا طالت أو رثت الغفلة» (١). ويقول فى موضع آخر: «ومتى خرج (القارئ) من آى القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس سداد. . . حتى يفضى إلى مزح ونكاهة، وإلى سخف وخزافة» (٢).

ودائما يعنى الجاحظ بصياغته، بادئا بموادّها من الألفاظ، فهى تارة ألفاظ جزلة رصينة، وتارة ألفاظ عذبة رشيقة، ولكل لفظة موضعها من الكلام ومن المعنى الذى تؤدّيه، وهو يصيح فى البيان والتبيين وغيره من كتاباته: التلاؤم التلاؤم ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، أو بعبارة أخرى لسامعيه، يقول: «وكما لا ينبغى أن يكون اللفظ عاميّا وساقطا سوقيّا فكذلك لا ينبغى أن يكون غريبا وحشيا إلا أن يكون المتكلم بدويّا أعرابيّا، فإن الوحشىّ من الكلام يفهمه الوحشىّ من الناس، كما يفهم السوقىّ رطانة السّوقىّ» (٣). ودائما يبدئ ويعيد فى أن الأسلوب ينبغى أن يكون وسطا بين لغة العامة ولغة الخاصة، وأن تشفّ الألفاظ عن المعانى حتى تلذّ الأسماع والقلوب، يقول: «أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه فى ظاهر لفظه. . . وإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا. . . صنع فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة» (٤). وأكثر من


(١) الحيوان (طبعة الحلبى) ٣/ ٧.
(٢) الحيوان ١/ ٩٣.
(٣) البيان والتبيين ١/ ١٤٤.
(٤) البيان والتبيين ١/ ٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>