للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحديث فى البيان والتبيين عن حسن الصياغة وجمال العبارات، وهو بحقّ الذى أعدّ فى قوة لشيوع أسلوب جديد فى الكتابة، هو أسلوب الازدواج، وهو أسلوب يقوم على التوازن الدقيق بين العبارات بحيث تتلاحق فى صفوف متقابلة، دون أن تتّحد نهاياتها على نحو ما هو معروف فى السجع. هى تتقابل وتتعادل صوتيّا، ولكن دون أن تحقق التوازن الصوتى المألوف فى السجع، ومع ذلك تحقق ضروبا من الإيقاع، فالكلمات تتوازن وتتعادل، وكأن كل كلمة فى عبارة تقابلها كلمة فى العبارة التالية على شاكلة قوله: «لا أعلم قرينا أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة ولا أحضر معونة، ولا أخفّ مئونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد فى كل إبّان من كتاب ولا أعلم نتاجا فى حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، ومن الإخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتنازحة، والأمثال السائرة، والأمم البائدة. ما يجمع لك الكتاب» (١). وبمثل هذا الأسلوب المتدفق الذى يحفّ، جمال الصوت من كل جانب دون أن يخرج به الجاحظ إلى تكلف السجع كان يؤلف ويصنّف الكتب الطوال والرسائل المتنوعة الموضوعات، دون أن تتأبّى عليه كلمة أو صيغة، فقد أصبحت اللغة مرنة فى لسانه وعلى قلمه إلى أقصى حد، لغة شفّافة يشيع فيها الوضوح وهذا الأسلوب المصفّى الذى يروق الآذان والأسماع بأصواته كما يروق القلوب والعقول بمعانيه وأفكاره.

ودائما تلقانا هذه الخصائص العامة لكتابات الجاحظ، إذ يعنى دائما بأسلوبه وسريان الازدواج فيه وبألفاظه وصياغاته وملاءمتها لمعانيها وموضوعاتها وقرّائها، كما يعنى بسريان روح الدّعابة والاستطراد من شعر إلى خبر إلى فكرة كلامية إلى نادرة إلى بيان سمة لشخص من معاصريه إلى قرآن أو حديث إلى فكرة عن علم من علوم عصره كالفلك إلى عقيدة للمجوس إلى ما لا يحصى من المعارف


(١) الحيوان ١/ ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>