وأحوال مجتمعه. وبذلك ينفرد عن أدباء عصره إذ جعل أدبه أدبا واقعيّا يصوّر مجتمعه وكل ما فيه من أخلاق وعادات تتصل بالرجال أو بالنساء والقيان وكيدهن.
ودائما تلقاك طوابعه العقلية من القدرة على الجدل واستنباط البراهين والأدلة ودقائق المعانى والأفكار خائضا بك فى أعمق المباحث الكلامية من تنزيه الله عن الشبه بالمخلوقات أو الكلام عن صفاته أو فى المعرفة أو فى الاستطاعة، مع ذكر أطراف مما يجرى فيه الناس ويخوضون فيه، ومع التنقل فى كل الموضوعات من الإنسان أو الحيوان أو النبات.
ولسنا بصدد البحث العام فى الجاحظ، إنما نريد أن نقف قليلا عند عرضه لبعض المناظرات وما كتبه من رسائل إخوانية وأدبية ونثر قصصى ونوادر، ومرّ بنا أنه طبع كثيرا من رسائله بطابع المناظرة والحوار فى مدح الشئ وذمه، ولعل أكبر مناظرة ساقها مناظرة النظام ومعبد فى الكلب والديك أيهما أفضل، إذ شغلت نحو مجلّد ونصف من كتاب الحيوان، ويذكر أن الغرض منها بيان حكمة الله وتدبيره فى الكلب والديك، يقول: «إنما نتنظّر (نجادل) فيما وضع الله عز وجل فيهما من الدلالة عليه وعلى إتقان صنعه وعلى عجيب تدبيره وعلى لطيف حكمته، وفيما استخزنهما من عجائب المعارف وأودعهما من غوامض الإحساس وسخّر لهما من عظام المنافع والمرافق، ودلّ بهما على أن الذى ألبسهما ذلك التدبير وأودعهما تلك الحكم يحب أن يفكّر فيهما ويعتبر بهما ويسبّح الله عز وجل عندهما». وهو يردّد ذلك فى جوانب من المناظرة ليبين الغاية منها والغرض. وقد بدأ فيها بالحديث عن الكلب وما قاله معبد فى ذمه وما قاله النظام فى مدحه، ولخّص ذلك يقول (١):
«باب ما ذكر صاحب الديك من ذمّ الكلاب وتعداد أصنافها ومعايبها ومثالبها من لؤمها وجبنها، وضعفها وشرهها، وغدرها وبذائها، وجهلها وتسرعها، ونتنها وقذرها، وما جاء فى الآثار من النّهى عن اتخاذها وإمساكها ومن الأمر بقتلها وطردها، ومن كثرة جناياتها وقلة ودّها، ومن ضرب المثل بلؤمها ونذالتها، وقبحها وقبح ملازمتها، ومن سماجة نباحها وكثرة أذاها، وتقذّر المسلمين