للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مترع الجفنة ربعىّ النّدى ... حسن مجلسه غير لطم

ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلى حتى يتخذ الشعراء المديح وسيلة إلى الكسب، فهم يقدمون به على السادة المبرزين وملوك المناذرة والغساسنة يمدحونهم وينالون جوائزهم وعطاياهم الجزيلة. وأخذوا فى أثناء ذلك يعنون بهذه القصائد عناية بالغة حتى تحقق لهم ما يريدون من التأثير فى ممدوحيهم. واشتهر بذلك زهير والنابغة وحسان ابن ثابت، أما زهير فاختص بأشراف قومه، وأما حسان فاختص بالغساسنة، ولعلقمة بن عبدة فيهم مفضلية بديعة نظمها فى الحارث الأصغر يتشفع لأخيه وقد وقع فى يديه أسيرا (١). أما النابغة فخص النعمان بن المنذر بمدائحه، وتصادف أن وقع بعض قومه أسرى فى أيدى الغساسنة، فأقبل عليهم يمدحهم ويتشفع فيهم، مما كان سببا فى غضب النعمان بن المنذر عليه، وسرعان ما أخذ يقدم له اعتذارات هى من أروع ما دبّجه الجاهليون

ومعنى ذلك أن الاعتذار نشأ نشوءا من المديح وفى ظلاله، وإن كانت تتداخل فيه عاطفة الخوف مع عاطفة الشكر والرجاء. ومما ينحو نحو الاعتذار ما ظهر عندهم من فنون عتاب كان ينشئه بعض الشعراء ملامة لما قد يصيبه من أذى الأقارب على نحو ما نجد عند ذى الإصبع العدوانى (٢) والمتلمّس (٣).

ولكن عتابهم واعتذارهم قليل، أما المديح فكثير كثرة مفرطة. إذ رحل به الشعراء إلى الملوك والأشراف يمتارون به، ويرجعون إلى أهليهم بجر الحقائب. ويظهر أن المناذرة خاصة كانوا يتخذونه وسيلة للدعاية لهم فى القبائل، فكثر الشعراء حولهم وأخذ يموج بهم بلاطهم منذ عمرو بن هند، فقد قصده كثيرون من أمثال المثقب العبدى، الذى لجأ إليه يمدحه بعد إيقاعه بقبيلته، وممن رحل إليه المتلمس والممزق العبدى وطرفة والمسيب بن علس. وكان النعمان بن المنذر ممدحا للشعراء ومن بديع ما نظم فيه قول حجر بن خالد (٤):

سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كفعل أبى قابوس حزما ونائلا


(١) المفضليات ص ٣٩٠ وما بعدها.
(٢) انظر قصيدته فى المفضليات برقمى ٢٩، ٣١.
(٣) الأصمعيات رقم ٩٢.
(٤) الحيوان ٣/ ٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>