للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كثير أيضا من عادات العرب. والمناظرة فى رأينا مناظرة بين الشعوبية والعرب، أما الشعوبية فرمزهم الديك الذى يرى فى قراهم ومدنهم، وأما العرب فرمزهم الكلب الذى لا يفارقهم فى منازلهم ومراعيهم، وكأن معبدا والنظام المعتزليين اسمان اختارهما الجاحظ ليقيم مناظرته، أما فى حقيقة الأمر فليس هناك معبد ولا النظام، وإنما هناك الجاحظ بلسنه وقدرته الرائعة على دراسة الموضوعات سواء اتصلت بالحيوان أو لم تتصل، وهناك العرب والشعوبية التى تستقذر الكلب وحيوانات الصحراء، مما جعل الجاحظ يعقد فى حيوانه مناظرة أخرى بين البعير والفيل (١)، فدائما الشعوبية تتحرش بالعرب وتهجّن حياتها وكل ما اتصل بها، وكأن الجاحظ أقام نفسه رصدا لهم، ومن الممكن أن يكون من هذا الباب كتابه الزرع والنخيل الذى أهداه إلى إبراهيم بن العباس الصولى، فالزرع رمز الحضارة والشعوبية، والنخيل رمز العرب والبادية، وقد هاجم الجاحظ الشعوبية مرارا، فى كتابه البيان والتبيين إذ أفرد لها فصلا طويلا وفى كتابات أخرى له متعددة عن العرب والعجم. ونسوق فقرة من ذم صاحب الديك للكلب وبعض صفاته وردّ صاحب الكلب عليه، وهى تجرى على هذه الصورة (٢):

«قال صاحب الديك: إن أطعمه اللص بالنهار كسرة خبز خلاّه، ودار حوله ليلا، فهو فى هذا الوجه مرتش وآكل سحت، وهو مع ذلك أسمج الخلق صوتا، وأحمق الخلق يقظة ونوما، ينام النهار كله على نفس الجادّة (الطريق) وعلى مدقّ الحوافر وفى كل سوق وملتقى طريق. . . وقد سهر الليل كله بالصياح والصخب، والنّصب والتعب، والغيظ والغضب، وبالمجئ والذهاب، فيركبه من حب النوم على حسب حاجته إليه، فإن وطئته دابة فأسوأ الخلق جزعا، وألأمه لؤما، وأكثره نباحا وعواء، فإن سلم ولم تطأه دابة ولا وطئه إنسان فليست تتم له السلامة، لأنه فى حال متوقع للبليّة، ومتوقع البليّة فى بليّة، فإن سلم فليس على ظهرها مبتلى أسوأ حالا منه، لأنه أسوأهم جزعا وأقلهم صبرا، لأنه الجانى ذلك على نفسه، وقد كانت الطرق الخالية له معرّضة. وأصول الحيطان مباحة، وبعد فإن كلّ خلق فارق أخلاق الناس فإنه


(١) الحيوان ٧/ ١٩٣.
(٢) الحيوان ١/ ٢٨٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>