وواضح كيف أن صاحب الديك ثلب الكلب مثالب مختلفة فى وفائه لأصحابه وفى غلظ صوته وفى نومه بالنهار على الطرق وفى الأسواق، وفى كثرة نباحه وعوائه حين تطؤه دابّة. وينقض صاحب الكلب كل تلك المثالب فهو ينام بالنهار مثل الملوك والسلاطين، وفى الأماكن الجامعة لما يلقى من السفهاء والصبيان، حتى يزجرهم الناس، ومع ذلك ليست كل الكلاب ترقد فى الأسواق إنما تلك كلاب الحراسة، وهذا طبيعى لأن الأسواق دورها ومنازلها. أما أنه لا يفى لأصحابه حين يلقى له لصّ بكسرة خبز، فإن محاسبته على ذلك لإحسانهم إليه، وإحسان اللص أحدث من إحسانهم، ثم هو كلب لا يعرف نية اللص وما أضمر من سرقة أهله، ولا يدرى أجاء ليأخذ أو جاء ليعطى، وربما كان أهله يعاملونه معاملة سيئة. وسماجة صوته ليست مثلبة، فالبغل أسمج صوتا منه، وكذلك الطاووس الجميل المنظر، والصوت الحسن إنما يكون لأصناف الحمام دون جميع الطير والسباع والبهائم. وحتى الناس منهم من تهبط منزلة صوته فى القبح درجات عن صوت الكلب، وذلك لا يعيبهم.
أما جزعه من وطء والدوابّ ضرب الصبيان له فربما كان جزع الفرس من ضرب السياط أسوأ من جزعه. وهكذا تسقط جميع المثالب التى وصف بها صاحب الديك الكلب ولا يبقى منها فى يده شئ. وهى براعة فائقة فى الحوار وفى الاستدلال والتلطف للبرهان والاحتيال له بالعقل الثاقب، مع التأنى والتمكين للحجج، وهى توضع فى صورة أدبية بديعة، هى صورة الأسلوب المزدوج الذى تتوازن فيه العبارات والصيغ وتنعادل إيقاعاتها تعادلا محكما. وتمتد المناظرة فى الكلب ومحاسنه ومساوئه من صفحة ١٩٠ فى الجزء الأول من الحيوان إلى صفحة ٢٣٣ من الجزء الثانى فتشغل بذلك مجلدا ضخما، ثم تبدأ المناظرة فى مساوئ الديك ومحاسنه وتسمر إلى صفحة ٣٧٥ من هذا الجزء الثانى. ومما احتج به صاحب الديك من محاسنه صياحه الدال على معرفته لساعات الليل فى الفجر وغير الفجر، حتى كأنه فوق الإسطرلاب الذى يرصد الفلك ومنازل القمر، ويردّ عليه صاحب الكلب هذه المحمدة، لأن الحمار يشرك الديك فيها بنهيقه فى الأسحار، يقول (١):