«لولا أن وجدنا الحمار المضروب به المثل فى الجهل يقوم فى الصباح وفى ساعات الليل مقام الديكة لقد كان ذلك قولا ومذهبا غير مردود، ولو أن متفقدا تفقد ذلك من الحمار لوجده منظوما يتبع بعضه بعضا على عدد معلوم، ولوجد ذلك مقسوما على ساعات الليل، ولكان لقائل أن يقول فى نهيق الحمار فى ذلك الوقت: ليس تجاوبا إنما ذلك شئ يتوافى معا، لاستواء العلة، فلم تكن للديك الموصوف بأنه فوق الإسطرلاب فضيلة ليست للحمار. . . والحمار أجهل الخلق، فليس ينبغى للدّيك أن يقضى له بالمعرفة، والحمار قد ساواه فى يسير علمه».
وعلى هذا النحو لا يدلى صاحب الديك بمحمدة إلا وينقضها عليه النظّام نقضا، وبالمثل ينقض معبد محامد الكلب. ويشتد الحوار بين المتناظرين، ونصبح وكأننا بإزاء بانيين لحصون من الأدلة والبراهين لا تلبث حين تقوم أن تنقضّ.
وكما قلنا ليس البانيان والناقضان سوى الجاحظ نفسه، فهو الذى أقام تلك المناظرة التى ظاهرها كلب وديك وباطنها عرب وشعوبية، وكان يتعصب للعروبة فى أعماقه، مما جعله ينفض عن الكلب كل مذامّه ومثالبه ويضفى عليه كثيرا من المحامد والمحاسن فى حماسة بالغة.
وهذا لون من ألوان أدبه. ولون ثان هو رسائله الإخوانية، وهى تموج بطرف فكره وبلاغته، فمن ذلك أن صديقه ابن الزيات تلوّن له وتنكّر فترة إذ أحسّ انشغاله عنه، فكتب إليه الجاحظ يستعطفه بالرسالة التالية (١):
«أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجّح فى قلبك إيثار الأناة (الحلم) فقد خفت -أيّدك الله-أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء، وبعد فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
وإنّ امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ماجنى لسعيد