فإن كنت اجترأت عليك-أصلحك الله-فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عنى شبيه بالإهمال الذى يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة (المجازاة) ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عمر كان خيرا لى منك: أرهبنى فأتقانى، وأعطانى فأغنانى. فإن كنت لا تهب عقابى -أيّدك الله-لحرمة، فهبه لأياديك عندى، فإن النعمة تشفع فى النقمة، وإلاّ تفعل ذلك لذلك فعد لحسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فأت ما أنت أهله من العفو، دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة. فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصرّ، حتى إذا صرت إلى من هفوته بكر (أولى) وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الإنعام إلا منك هجمت عليه بالعقوبة. واعلم-أيّدك الله-أن شين غضبك علىّ كزين صفحك عنى، وأن موت ذكرى مع انقطاع سببى منك، كحياة ذكرى مع اتصالى سببى بك، واعلم أن لك فطنة عليم، وغفلة كريم، والسلام».
والرسالة على قصرها تحمل خصائص الجاحظ الأدبية، ففيها شعر وخبر، وفيها المهارة العقلية على التدليل واستنباط الأفكار، فابن الزيات هو الذى طال تغافله عن الجاحظ ويشبّه التغافل بالإهمال ضربا من القياس ليصل إلى إغفاله له، ويسوق دليلا ملزما، فهو دائما يعفو عنه والعفو المتتابع يجعل المعفوّ عنه آمنا من المجازاة وأن يصاب بسوء. ثم مضى يلزمه الرضا عنه، بمنزل متعددة منه، إما لمنزلة حرمته منه، وإما لما تتابع عليه من أياديه، والنعمة تشفع فى النقمة، برهانا ساطعا، وإما لحسن العادة، وإما لحسن الأحدوثة، وإما لأنه أهل للعفو عن المستحقين للعقوبة من أمثاله. ويتلطّف له قائلا إنه أول ذنب لى وليس ذنبى إلا النسيان، وهل عرفت الشكر إلا لك ولا الإنعام إلا منك. فماذا يملك ابن الزيات إزاء هذا البيان الرائع إلا أن يعود إلى الرضا التام؟ وتتقابل عبارات الرسالة فى صفوف، وكأن كل كلمة فى عبارة سابقة تجذب قرينتها فى العبارة اللاحقة، دون محاولة لسجع أو نغم متماثل فى نهايات الجمل المتلاحقة، وهكذا الجاحظ دائما يكتفى بجمال التوازن العام فى أسلوبه المزدوج. وانظر إلى التوازن الدقيق فى العبارات الأخيرة من الرسالة. «فشين غضبك» توازن «زين صفحك»، و «موت ذكرى