للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأهم من هذا الموقف له ضد الشعوبية أن نجده يدخل بقوة الثقافات الأجنبية:

اليونانية والفارسية والهندية على الثقافة العربية الإسلامية، ويعمل على تكوين مزيج موحّد منها جميعا، بحيث لا يشغل أصحاب كل ثقافة بالدعوة والترويج لها، مما أحدث هذا الصراع العنيف بين الشعوبيين والعرب الذى طال عليه الأمد منذ عهد المهدى حتى عصره. وحقّا حاول ذلك الجاحظ من قبله، ولكن غلبة النزعتين الكلامية والأدبية عليه حالت دون النفوذ إلى نهاية الغاية، وكانت الثقافة اليونانية أكثر شئ يشغله، حتى ليقول: «لا يكون المتكلم جامعا لأفطار الكلام متمكنا فى الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذى يحسن من كلام الدين فى وزن الذى يحسن من كلام الفلسفة» (١) وأشار غير مرة إلى أن كتابه «أخذ من طرف الفلسفة». ولم يكن اليونانيون أصحاب النزعة الشعوبية فى العصر، فقد كان الفرس هم الذين يحملون علمها ويبذلون قصارى جهدهم فى الدعوة لها مشيرين دائما إلى كتب الآداب الفارسية. فكان لا بد كى يقضى على هذه النزعة الحادّة من أن تلتقى-على يد كاتب عظيم-ثقافتها وكذلك الثقافة اليونانية والهندية بالثقافة العربية الإسلامية، وتدخل جميعها فى مجرى النهر العربى الإسلامى بحيث تتلاشى فيه نهائيّا، ولا يصبح لها وجود مستقل، فوجودها جزء لا يتجزأ من وجود الثقافة العربية الإسلامية العامة.

وهو ما نهض به ابن قتيبة فى أروع صورة، إذ مضى ينسّق مختارات ومقتطفات من الآداب الفارسية، مع مقتطفات ومختارات من الآداب العربية الخالصة ومع مقتطفات ومختارات من الثقافتين الهندية واليونانية، وكانت ثمرة ذلك أربعة مجلدات ضخمة ألّفت كتابه «عيون الأخبار»، وقد وزعه على عشرة كتب، أولها كتاب السلطان، وفيه يتحدث عن سيرته وسياسته وصحبته واختياره للعمال والقضاة والحجّاب والكتّاب، ويبدؤه بأحاديث نبوية، ثم يذكر بعض وصايا لشخصيات عربية فى الحكم وسياسة السلطان، ولا يلبث أن يقول: وقرأت فى كتاب من كتب الهند: «شر المال ما لا ينفق منه، وشرّ الإخوان الخاذل، وشرّ السلطان من خافه البرئ، وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن. . . وخير سلطان من أشبه النّسر


(١) الحيوان ٢/ ١٤٣. (٢) الحيوان ١/ ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>