للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاقضوا مآربكم عجالا إنما ... أعماركم سفر من الأسفار

ليس الزمان وإن حرصت مسالما ... خلق الزمان عداوة الأحرار

وبمثل هذه العظات التى تمس دخائل القلوب وأعماق النفوس يفتتح التهامى مرثيته لفلذة كبده، مصورا الدنيا وكئوسها المليئة بالأقذاء وأيامها التى تدنى الآجال وتقطع الآمال، وتجعل الإنسان دائما بين يومين: يوم مضى بنكده وبؤسه ويوم بقى لا يدرى الإنسان هل سيقطعه إلى نهايته أو أن أنفاسه ستنقطع دون غايته، فتخرج منه النّفس ويحل فى الرّمس ويتجه بعد هذا العزاء الذى يذيب فؤاده حسرات إلى بكاء ابنه الذى اختطفه الموت منه وهو لا يزال غضّا فى كمّه:

يا كوكبا ما كان أقصر عمره ... وكذاك عمر كواكب الأسحار

وهلال أيام مضى لم يستدر ... بدرا ولم يمهل لوقت سرار (١)

جاورت أعدائى وجاور ربّه ... شتّان بين جواره وجوارى

أخفى من الرّقياء نارا مثلما ... يخفى من النار الزّناد الوارى

وتلهّب الأحشاء شيّب مفرقى ... هذا الضياء شعاع تلك النار

ويمضى فى وصف زفراته وعبراته ونيران الأسى تلذع فؤاده، وقلبه يمتلئ حسرة وشقاء ونفسه تمتلئ لوعة وعناء ممضّا، وما الحياة؟ إنها لم تعطه ما كان يريد من ابتسام بل أعطته كل ما أمكن من أذى وآلام، وإن ذكرى ابنه لهى نفس هذه الآلام الثقال، وإنه ليحس إزاءها بحريق لا يزال يأخذ بسويداء فؤاده. والمرثية تمتد إلى مائة بيت، ومثلها فى الطول مرثية رائية لابنه تبلغ ٧٨ بيتا وفيها يقول محزونا:

محاك الرّدى من رأى عينى وما محا ... خيالك من قلبى وذكرك من ذكرى

وهو من شعراء المديح المبدعين، ويكاد المديح يستنفد شعره جميعه، وهو فيه طويل النفس، ومن خير مدائحه ما قدمه للمفرّج الطائى وابنه حسان، وفيه يقول:

فتى جبلت يداه على العطايا ... كما جبل اللّسان على الكلام

ويسراه لنيل أو عنان ... ويمناه لرمح أو حسام (٢)

لقد أحيا المكارم بعد موت ... وشاد بناءها بعد انهدام

بصفحة خدّه للبشر ماء ... كمثل الماء فى صفح الحسام (٣)


(١) السرار: ليالى آخر الشهر التى لا يظهر فيها القمر.
(٢) النيل: العطاء. والعنان: عنان الفرس.
(٣) الماء هنا: الرونق.

<<  <  ج: ص:  >  >>