مصارع أمثالهم الكافرين، وواردين موارد أعمالهم خاسرين، قد قطع الله أوصالهم، وبتّ من حبله حبالهم».
والرسالة طويلة وابن القمّ يلتزم فيها السجع، وواضح أنه يعنى باصطفاء ألفاظه، والملاءمة بينها حتى يحكم ما يريد من الجرس لكلامه وحسنه واستوائه بحيث لا نحس نبوّا ولا نشازا فى عبارة من عباراته. ومما يصور عنايته بنغم كلامه أن الآيات القرآنية التى يقتبسها تلتقى فواصلها مع قوافيه التقاء طبيعيا، وهو التقاء كان يقصد إليه قصدا حتى يلتحم جرس النغم فى الرسالة التحاما تاما.
وكأنّ ابن القم كان استهلالا قويا لأن تأخذ اليمن منذ عصره فى العناية برسائلها الديوانية عناية يعمّ فيها غير قليل من التنميق ورصف السجع وتدبيجه. ويلاحظ ذلك بوضوح فى الرسائل والعهود المكتوبة فى الدولة الرسولية، على نحو ما يلاحظ فى العهد الذى فوّض فيه السلطان المظفر (٦٤٧ - ٦٩٤) الحكم من بعده لابنه السلطان الأشرف عمر، وهو يستهله بقوله بعد الحمد والثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء (١):
«أما بعد فقد ملّكنا عليكم من لا نؤثر فيه-والله-داعى التقريب، على باعث التجريب، ولا عاجل التخصيص، على آجل التمحيص، ولا ملازمة الهوى والإيثار، على مداومة البلوى والاختبار. وهو سليلنا الخطير، وشهابنا المنير، وذخيرتنا على المراد، وبصيرنا الذى نرجو به صلاح البلاد والعباد، ونؤمّل فيه من الله الفوز والنجاة فى المعاد، وقد رسمنا له من وجوب الذبّ والحماية، ومعالم الرفق والرعاية، ما قد التزم بوفاء عهده.
والمسئول فى إعانته من لا عون إلا عون من عنده. ولن نعرفكم من حميد خصاله، وسديد فعاله إلا بما قد بدا للعيان، وزكا مع الامتحان، وفشا من قبلكم فى كل لسان»
وواضح ما فى العهد من ميل شديد إلى تصفية اللفظ وأن يكون سلسا سلاسة الماء النمير، وواضح أيضا ما فيه من موازنة دقيقة بين سجعاته، فكلمة «داعى التقريب» توضع على وزنها كلمة «باعث التجريب» وكلمة «عاجل التخصيص» تليها موازنة لها كلمة «آجل التمحيص» وكلمة «ملازمة الهوى والإيثار» توازنها كلمة «مداومة البلوى والاختبار» وكل ذلك إرضاء لأذن السامع. ومثله محاولة الإتيان بالمترادفات فى نهاية السجعة مثل «الذب والجماية» و «الرفق والرعاية» و «حميد خصاله» و «سديد فعاله» مما يدل بوضوح على الرغبة فى اكتمال نغم الكلام.
وتلقانا فى عهد السلطان الأشرف وربما كان فى عهد أخيه المؤيد (٦٩٦ - ٧٢٠ هـ)