للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ندرى بالضبط ما سبب هذا الاستعطاف وخاصة أنه كان-كما مر بنا فى ترجمته بين الشعراء-القائم على ديوان الإنشاء للدولة وكاتب رسائلها. وتذكر المصادر أن أباه وضع يده فى يد جياش بن نجاح حين استولى على زبيد من الدولة الصليحية. وربما حدثت نبوة بينه وبين سبأ فألم بزبيد فأغضبه ذلك منه، والرسالة تمضى على هذا النمط (١):

«كتب عبد حضرة السلطان الأجلّ مولاى ربيع المجديين، وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقيب ذوى الرشد والمناقب، أطال الله بقاءه، وأدام علوّه وارتقاءه، ما قدّمت العارية للمستعير، ولزمت الياء للتصغير، وجعل رتبته فى الأوّلية عالية المقام كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر فى البنية، فإنه مقدم فى النّيّة. ولا زالت حضرته من الحادثات حمى، وللوفود مزدحما وملتزما، حتى يكون فى العلا، بمنزلة حرف الاستعلا. . ولا زال عدوّه كالألف، حالها يختلف، تسقط فى صلة الكلام، ولا سيما مع اللام، فإنه-أدام الله علوه-أحسن إلىّ ابتداء، ونشر علىّ من فضله رداء، أراد أن يخفى، وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان-كالمفعول رفع رفع الفاعل الكامل لما حذف من الكلام ذكر الفاعل- وأنا أهدى إليه سلاما ما الروض ضاحكه النّوض (٢)، غرس، وحرس، وسقى، ووقى، وغيب، وصيب (٣)، فأخذ من كل نوء (٤) بنصيب، زهاه الزّهر، وسقاه النّهر، جاور الأضا (٥) فحسن وأضا، رتع فيه الشّحرور (٦)، ومرح العصفور، فنظر إلى أقاحيه، تفترّ فى نواحيه، وإلى البهار، يضاحك شمس النهار، فجعل يلثم من ورده خدودا، ويضم من أغصانه قدودا، ويقتبس النار، من الجلّنار (٧)، ويلتمس العقيق من الشقيق (٨) فتثنّى ثملا، وغنّى خفيفا ورملا، بأطيب من نفحته المسكية، وأعطر من رائحته الذكية، وإنى وإن أهديته فى كل أوان، من أداء ما يجب غير وان، أعدّ نفسى السّكّيت (٩) فى السبق، لتقصيرى لما وجب علىّ من الحق».

وكل من يقرأ رسائل أبى العلاء المعرى يحس بوضوح صلة هذه الرسالة بها، ومرّ بنا فى حديثنا عن شعره أنه كان يستوحيه فى بعض أبياته، ومعروف أن أبا العلاء كان يتصنع فى


(١) معجم الأدباء ١٠/ ١٣٢.
(٢) النوض: مجرى الماء، ويريد الماء نفسه.
(٣) غيب: غاب بذره فى الأرض. وصيب: أمطر.
(٤) النوء: المطر.
(٥) الأضا: الغدير.
(٦) الشحرور: طائر كالعصفور رخيم الصوت.
(٧) الجلنار: زهر الرمان.
(٨) الشقيق: ورد كبير أحمر.
(٩) السكيت: آخر خيل الحلبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>