للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رسائله تصنعا واسعا لجلب مصطلحات العلوم اللغوية، وهو أول من نهج بقوة هذه السبيل ومهّدها لمن جاءوا بعده (١)، وتأثره فيها شرقا وغربا الكتّاب، وها هو ابن القم اليمنى الذى يوشك أن يكون معاصرا له يتأثره فى هذا الأسلوب الجديد، فإذا هو يدعو لسبإ بن أحمد بدوام علوه وارتقائه دوام لزوم الياء عند الصرفيين للتصغير، ويدعو له بدوام تقدم رتبته على الأمراء والسلاطين من حوله كدوام تقدم حرف الاستفهام على جملته أو عبارته، وكدوام تقدم المبتدأ على الخبر، وحتى إن هو تأخر عنه كان متقدما عليه فى النية.

وإنه ليتمنى له أن يظل دائما متسنما ذروة العلا، مثله مثل حروف الاستعلاء عند أصحاب التجويد والقراءات وهى سبعة: ق، ظ، خ، ص، ض، غ، ط، وهى دائما تفخم فى النطق، فلا يدخل عليها ترقيق. ويجعل عدوه كالألف، حاله دائما مختلفة، إذ هى تأتى للوصل وللقطع، ولا ينطق بها فى مثل الشمس والنور والصلاة.

ولا ريب فى أن ذلك تعقيد وتصنع شديد، إذ لا يستطيع أن يفهم عبارات الرسالة إلا من عرف علوم الصرف والنحو والتجويد والقراءات. وظاهرة ثانية فى الرسالة اندفع فيها ابن القمّ وراء أبى العلاء وإن لم يبعد إبعاده، وهى ظاهرة التصنع للفظ الغريب، فقد وشّاها به، وكأنما أصبح غاية من غايات الكتاب البارعين أن يجلبوا الألفاظ الغريبة إلى رسائلهم، حتى يثبتوا مهارتهم، وهى مهارة لغوية خالصة. ونحمد لابن القمّ أنه لم يسرف فى هذه المهارة. والرسالة تصور براعة حقيقية فى استخدام السجع، فقد كان يستطيع أن يأتى به قصيرا، بل مفرطا فى القصر، حتى لتكون السجعة أحيانا كلمة واحدة. والجناس كثير فى العبارات، من مثل قوله: «جلوة الملتبس» و «جذوة المقتبس» و «البهار» و «النهار» إلى غير ذلك من جناسات ناقصة تكتظ بها الرسالة، وهو يمضى فيها مستعطفا محاولا بكل ما فى وسعه أن يستل الضغينة من صدر سبأ بمثل قوله:

«وأما حال عبده، بعد فراقه فى الجلد، فحال أم تسعة من الولد، ذكور، كأنهم عقبان وصقور، كنّوا (٢) فى وكور، اخترم (٣) منهم ثمانية، وهى على التاسع حانية.

نادى النذير، العربان فى البادية، للعادية، ياللعادية (٤)، فلما سمعت الدّاعى، ورأت الخيل وهى سراع، جعلت تنادى ولدها: الأناة! الأناة! وهو ينادى العداة! العداة:


(١) انظر كتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى (نشر دار المعارف-الطبعة الثامنة) ص ٢٧٣ وما بعدها.
(٢) كنوا: استتروا وأقاموا.
(٣) اخترم: مات.
(٤) العادية الأولى: الداهية، والثانية: الخيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>