للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول لنفسى الدنيّة هبّى طال نومك، واستيقظى لا عزّ قومك، أرضيت بالعطاء المنزور (١) وقنعت بالمواعيد الزور، يقظة فإن الجدّ قد هجع، ونجعة فمن أجدب انتجع».

ويتشبه ابن القم فى هذه القطعة بأبى العلاء من ناحية وببديع الزمان الهمدانى من ناحية أخرى، أما تشبهه بأبى العلاء أو محاكاته له فتتضح فى الألفاظ الغريبة التى يحشدها فى نثره، وحتى الشعر يرى أن يختار أبياته من ذوات اللفظ الغريب، على الأقل إلى حد ما. وكان بديع الزمان يزين رسائله بالأشعار، وقد حاكاه فى ذلك وفى تضمين رسائله بعض الحكايات القصصية، حين شبّه نفسه وتحسره على ما فقده من قرب سبأ وقيامه على ديوانه بأم لتسعة فقدت ثمانية منهم، وبقى لها ولد واحد، هو كل أملها فى الحياة، فإذا غارة على الحى، وركب ولدها فيمن ركبوا للدفاع والذود عن الحريم، وهى تصيح به من ورائه خائفة جزعة تريد أن ترده، ويتراءى لها فى بطولته وبأسه وسلاحه، وعبثا تحاول ردّه. ويلقاه من الأعداء فارس، بل أسد هصور، وتدور عليه الدوائر، وتسمع صياح الخيل حين عودتها، فتبرز من بيتها تسأل عن فلذة كبدها، وتعرف أنه سفك دمه، فتخرج إلى العراء باحثة عنه، وتجده أشلاء ممزقة. فياللهول ويا للكارثة المقضّة للمضاجع. ويقول إنه ليس أشد أسفا منها ولا كمدا وتلهفا على فقده لعمله عند سبأ ولعطفه ورعايته. ويلوم نفسه أن ترك العمل بديوانه بل إنه ليعاتب سبأ عتابا رقيقا، كله لطف، ملوّحا له بحقه عليه، وأنه قرّب إليه واصطفى من هم دونه فى المنزلة الأدبية، وكأنه يعرض عليه الصفح عنه والعفو، آملا فى العودة، إلى سابق مكانته، وإنه ليصرح بأنه أجدب، وخليق به أن ينتجع، وأن يجد الوادى ممرعا كعهده.

وإذا كنا قد وجدنا فى اليمن كاتبا مبكرا يحاكى أبا العلاء وبديع الزمان فى بعض رسائلهما فإننا نجد فى حضرموت كاتبا يحاكى الحريرى لا فى مقاماته، ولكن فى بعض رسائله، وكان الحريرى قد اشتهر برسالة سينية جميع كلماتها من ذوات السين كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب فيها صديقا أخلّ به فى دعوة دعا غيره إليها. وعلى غرار هذه الرسالة كتب السيد عمر السقاف الحضرمى رسالة سينية طويلة نقتطف من مطلعها قوله (٢):

«باسم السلام (٣) أستبدى، وبإسعافه أستهدى، وبأسمائه أستنجد، ولنفثات سره


(١) المنزور: القليل.
(٢) تاريخ الشعراء الحضرميين ٣/ ١٤.
(٣) السلام: من أسماء الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>