للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحدها، بل فى بيئات كل الدول والإمارات التى كانت تعاصرها، وأيضا فى الدول التى جاءت بعد ذلك، ونقصد إمارة الزيديين ودولتى الرسوليين والطاهريين، حتى إذا أصبح الصولجان فى اليمن بيد الزيديين ظل الوعظ مزدهرا. وكانت ترفده دائما خطابة الجمعة فى المساجد والجوامع أسبوعيا، كما كان يرفده المتصوفة، ومن أشهرهم فى عهد الرسوليين أبو الغيث (١) بن جميل الملقب بشمس الشموس المتوفى سنة ٦٥١ للهجرة، وسئل عن الصوفى من هو؟ فقال: «هو من صفاسرّه من الكدر، وامتلأ قلبه من العبر، وانقطع إلى الله عن البشر، واستوى عنده الذهب والمدر (٢)». ومن دعائه: «اللهم إنى أسألك يا روح روح الروح، ويا لبّ لبّ اللبّ، ويا قلب قلب القلب، هب لى قلبا أعيش به معك، فقد خلقت كلّ ما هو دونك لأجلك، فاجعلنى ممن شئت من هذه الجملة».

وكان يعاصره أحمد بن علوان الذى مرّ ذكره وله فى الوعظ كتاب نحى فيه منحى ابن الجوزى فلذلك يقال له جوزىّ اليمن وله فى التصوف فصول كثيرة (٣)، وله أتباع من الدراويش المعروفين فى اليمن بالمجاذيب، كانوا ينشرون هناك كلامه ومواعظه. ومرّ بنا فى غير هذا الموضع حديث عن عبد الله بن أسعد اليافعى نزيل مكة وشيخ الحرم بها وله شعر صوفى ومواعظ كثيرة. وصنف فى الصوفية وتراجمهم-كما مر بنا-كتابا سماه «روض الرياحين وحكايات الصالحين».

وكان الوعظ مزدهرا فى حضرموت، إذ اشتهر فيها صوفيون كثيرون بمواعظهم، غير من كانوا يعظون الناس وراءهم فى المساجد وفى خطابة الجمع، ومن أشهر متصوفيها أبو بكر العيدروس، ومرّ بنا ذكره وبعض أشعاره الصوفية فى حديثنا عن شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية، وله نثر صوفى ووعظ كثير، ومن قوله فى الفرق بين الشريعة والحقيقة (٤):

«الحمد لله وهو الحامد لنفسه والمحمود، ومنه انبعاث القصد للقاصدين وهو المقصود، خلق لعبده إرادة بإرادته وأثبته، حتى أقام عليه حجته، وبإثباته له قام عليه أمره ونهيه وجازاه، على مقتضى سعيه فناداه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى} وتارة أقام نفسه وأخفاه، فقال: {وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} فحصلت الحيرة، وعميت الأبصار والبصيرة. فوفّق من شاء من عباده للوقوف عند مكنون علمه، فوقف مع الشريعة بجسمه ومع الحقيقة بقلبه، فالعلم المتجلى على الجسم علم ظاهر، وهو علم


(١) العقود اللؤلؤية ١/ ١٠٧.
(٢) المدر: القطعة من الطين.
(٣) العقود اللؤلؤية ١/ ١٦٠.
(٤) تاريخ الشعراء الحضرميين ١/ ١١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>