الشريعة، والعلم المتجلى على القلب علم باطن، وهو علم الحقيقة. فأقام ظاهر الإسلام على أركان، القائم بها جوارح الأبدان، وأقام حقيقة الإيمان والإحسان على يقين وبيان، القائم بها صميم الجنان، ولكن لما خفى عن الأسماع الحسية ما بالقلب جعل له ترجمان وهو اللسان، فارتبطت الشريعة بالحقيقة، والحقيقة بالشريعة».
وأبو بكر العيدروس يشير فى أول كلمته إلى الخلاف بين الجبرية القائلين بأن كل شئ قدر مقدور ولا مفر منه، ولا حول ولا قوة للإنسان إزاءه، وبين القدرية القائلين بأن كل عمل للإنسان إنما هو بإرادته وحريته وأن كل شئ إنما هو بمشيئته. ويقول إنهما جميعا حائران، ويضع فوقهما أهل الحقيقة من الصوفية القائمين بأداء فرائض الإسلام وأحكامه ويسمى ذلك عمل الجوارح، ويقول إنهم يجمعون بين هذا العمل وعمل القلوب وصدق شعورها الباطن الذى لا ينضب معينه إذ يستمد من المحبة الإلهية ورحيقها الصافى. وتصوفه بذلك تصوف سنى كتصوف الغزالى وأضرابه، ممن يقيمون تصوفهم على الجمع بين علم الشريعة الظاهر وعلم الحقيقة الباطن.
وطبيعى أن يكثر الوعظ فى خطابة الخوارج الإباضية بعمان، وقد وقف الجاحظ فى كتاب البيان والتبين مرارا عند خطابة الخوارج من جميع فرقهم، ونوّه بين الإباضية خاصة بخطابة أبى حمزة قائد عبد الله بن يحيى الكندى، وروى بعض خطبه، وهى تمتاز بألفاظها الطلية ومعانيها القوية. ولا شك فى أنه ظلت شعاعات من خطابته وخطابة عبد الله بن يحيى وعبد الله بن إباض تدور فى ألسنة خطباء الإباضيين بعدهم، وتلقانا خطبة جمعة متأخرة فى عصر إمامهم ناصر بن مرشد (١٠٢٤ - ١٠٥٠ هـ) وهى تمضى على هذا النمط (١):
«بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذى هدم بالموت مشيّد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، وجعلهم أغراضا لسهام الأقدار، ووكّل بهم أمراضا تزعجهم عن القرار، وتجرى منهم مجرى الدماء فى الأبشار، لا يعتصم منهم معتصم بالحذار، ولا يختص بها الفقراء دون ذوى اليسار، بل هى آيات عدل عدل الله بها فى البادين والحضّار، أحمده على نعمه المسبلة الغزار، وأعوذ به من العتوّ والاستكبار، وأستغفره للذنوب والأوزار، من الكبائر والإصرار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة منجية من عذاب النار، مبوّئة من شهد بها دار القرار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار، أرسله بأيمن شعار، وأبين فخار، وأنور منار، وأطهر إعلان وإسرار، وأظهر