للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطبيب حين كان يدور من بيت إلى آخر لمعالجة العامة كان يأخذ أجرا له عن كل مريض ربع درهم (١)، ويذكر التنوخى أن رجلا كان يستأجر حانوتا بنصف درهم وزيدت إلى درهم (٢). والخبران من أخبار أوائل العصر فى القرن الرابع الهجرى، فما بالنا بما صارت إليه العامة بعد ذلك من بؤس وتعاسة، وهذا هو السبب فى كثرة العيّارين ببغداد طوال القرنين الرابع والخامس الهجريين، ومن يقرأ أخبارهم يحس أنهم كانوا يستشعرون فكرة العدالة الاجتماعية، إذ يرون طائفة قليلة من الوزراء والقواد وكبار الموظفين والإقطاعيين والتجار الموسرين يتمتعون بل يتمرّغون فى الترف والنّعيم وهم محرومون يتجرّعون البؤس والمسغبة، وقد أشعلوا فى شهر المحرم لسنة ٣٦٤ للهجرة ببغداد حريقا عظيما، واستفحل أمرهم حتى خافهم الجند وتلقبوا بالقواد وتسلطوا على بغداد وأخذوا الضرائب من الأسواق (٣)، ويذكر أبو حيان من قوادهم ابن كبرويه وأبا الدرد وأبا الذباب وأسود الزّبد (٤). وعادوا إلى التسلط على بغداد سنة ٣٨٠ فنهبوها وعينوا عريفا لهم فى كل محلة (٥). وأخذ ينتظم مع الزمن فى صفوفهم كثير من العلويين والعباسيين كما حدث فى فتنتهم سنة ٣٩٢ مما يدل على أنهم كانوا ساخطين سخطا شديدا على الأغنياء المترفين من رجال الدولة وغيرهم، وأنهم كانوا ينادون بفكرة العدالة الدينية. ونمضى فى القرن السادس الهجرى فنجد فتنهم تشتعل ببغداد من حين إلى حين، ويعظم شأنهم فى عهد السلطان مسعود السلجوقى (٥٢٧ - ٥٤٧ هـ‍) وينهبون بغداد مرارا. وما زالت فتنهم تنشب فيها طوال القرن السادس، حتى إذا كنا فى عصر الخليفة الناصر (٥٧٥ - ٦٢٢ هـ‍) وجدناه فى سنة ٥٧٨ يستدعى شيخا من بينهم عرف بأن له أتباعا كثيرين، فعرض عليه أن ينتظم معه ومع أتباعه فى الفتوة، على أن تتجه وجهة صالحة، فلا تكون للإفساد ولا للنهب ولا للفتن، بل تكون فتوة فاضلة تقوم على المروءة وشرف النفس. وشرب الناصر من يد الشيخ عبد الجبار ماء الفتوة وهو ماء مملوح، وكأنه يشير عندهم إلى أنهم لا يشربون الخمر وأيضا لبس الناصر سراويلها كما أسلفت وأخذ فى تنظيم هذه الفتوة الشريفة، فدخل فيها أهل بغداد أفواجا، وعمد إلى نشرها فى الآفاق وطلب إلى الحكام أن يدخلوا فيها، ودخل كثير منهم، على هدى منشور فيها، أرسله إلى الآفاق يحض على الانتظام فى سلكها، وكان ممن انتظم فيها شهاب الدين الغورى سلطان غزنة والهند، كما ذكر ابن الأثير فى حوادث سنة ٦٠٢ وانتظم فيها السلطان


(١) مسكويه ٢/ ١٩٨.
(٢) الفرج بعد الشدة للتنوخى ٢/ ١٥٥.
(٣) انظر حوادث سنة ٣٦٤ فى المنتظم وابن الأثير وابن تغرى بردى.
(٤) الإمتاع والمؤانسة ٣/ ١٦٠.
(٥) راجع فى السنة المذكورة المنتظم وابن الأثير.

<<  <  ج: ص:  >  >>