العادل الأيوبى وأبناؤه كما مرّ بنا. وكان هذا عملا جليلا، لا لأنه أنقذ بغداد من العيارين والنهب والسلب المستمر فحسب، بل لأنه وجّه شباب بغداد بل شباب الأمة إلى أتخاذ الفتوة الفاضلة درعا فى حروبهم مع أعدائهم من الصليبيين، وقد تحولت إلى نظام عظيم، كتب فيه العلماء كتبا، من أهمها كتاب الفتوة لابن المعمار البغدادى المتوفى سنة ٦٤٢ وهو يوضح فيه حقيقتها ومنشأها ومنزلتها من الشريعة الإسلامية وشرائطها ومصطلحاتها على ألسنة الفتيان النبيلة (١). غير أن بغداد لم تلبث أن اكتسحتها أمواج التتار هى والعراق، وحكمها الإيلخانيون ومن جاء بعدهم من التيموريين والتركمان والصفويين والعثمانيين، وأخذت أحوال أهلها هى والعراق عامة تزداد سوءا من عصر إلى عصر، لكثرة ما كان يفرض على الناس فى المدن والريف من الضرائب الفادحة.
ولم نتحدث عن أهل الذمة من المجوس والنصارى والصابئة واليهود، وكانوا يتمتعون بتسامح واسع نظير ما يدفعونه من الجزية، وكانت لا تتجاوز دينارا اللعامة ودينارين للطبقة الوسطى وثلاثة دنانير لأصحاب الثراء، وكانت أشبه بضريبة تؤخذ للدفاع الوطنى، إذ لم يكن يؤديها إلا من يقدرون على حمل السلاح، فلا يؤديها النساء ولا الرهبان ولا من لم يبلغ الحلم ولا العجوز ولا الفقير البائس ولا ذوو العاهات. وكانت الدولة وخاصة فى الحقبة البويهية تستخدم بعض النصارى فى الدواوين واتخذ منهم عضد الدولة وزيرا-كما مرّ بنا-وكان منهم أطباء كثيرون فى مختلف الحقب، أما اليهود فكانوا يشتغلون بأهون المهن، فكان منهم الصّباغون والخرّازون وأمثالهما كالأساكفة.
وكان الرقيق كثيرا كثرة مفرطة، وكان من أجناس مختلفة، فمنه الإفريقى ومنه التركى الآسيوى ومنه الأوربى وخاصة الصقلبى والرومى. وكانت له سوق رائجة فى بغداد من قديم، وكانت التجارة فيه تدرّ أرباحا طائلة على النخاسين، وكانت لهم حيل كثيرة يخدعون بها الناس عند شراء الجوارى والرقيق بعامة، ومن أجل ذلك ألف ابن بطلان المتوفى بعد سنة ٤٥٥ للهجرة رسالة سماها «شراء الرقيق وتقليب العبيد» وفيها يصور حيل النخاسين فى تحسين الجوارى وطرق خداعهم فى إزالة آثار الجدرى والوشم والنمش من أجسادهن وصبغهن بألوان تخفى ما قد يكون من آثار البرص أو البهق وصبغ عيونهن بألوان تجعلها كحلاء أو زرقاء، ويصور بعض مقاييس الحسن فى الجارية من أخمص قدمها إلى
(١) انظر فى الفتوة وتنظيم الناصر لها كتاب الفتوة لابن المعمار (طبع بغداد) والمقدمة الطويلة التى كتبها الدكتور مصطفى جواد لهذا الكتاب. وانظر الفتوة والخليفة الناصر للمستشرق الألمانى فرانز تيشنر فى كتاب المنتقى من دراسات المستشرقين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر).