للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما عرف فضله وتألق نجمه، وكان دميم الخلقة وبه وضح ظاهر فلزم داره، وتحوّلت هذه الدار إلى منتدى كبير يختلف إليه الفلاسفة والعلماء والمثقفون من حوله، ينهلون من ينابيع فكره ما يمتعون به عقولهم ونفوسهم. وكانوا مختلفى المشارب، فمنهم المسلم وغير المسلم ومنهم المتفلسف، مثل الطبيب المجوسى المعروف بفيروز (١) وأبى إسحاق (٢) الصابئ الكاتب وابن زرعه (٣) النصرانى ومثل أبى زكريا الصيمرى وأبى الفتح النوشجانى وأبى محمد العروضى المتفلسفين، ومثل أبى القاسم عبيد الله بن الحسن المعروف بغلام زحل المنجم، ومثل على بن عيسى الرمانى مفلسف النحو ومباحثه ومثل القومسى الكاتب والمقدسى صاحب رسائل إخوان الصفا وقد ترجم له أبو سليمان فى نهاية كتابه صوان الحكمة كما أشرنا إلى ذلك آنفا. يقول أبو حيان: «وكل واحد من هؤلاء إمام فى شأنه وفرد فى صناعته، سوى طائفة دون هؤلاء فى الرتبة (٤)». وهذا المنتدى الكبير ظل عشرات السنين تثار فيه مشاكل الميتافيزيقا والإلهيات والطبيعيات والرياضيات والأخلاق والنفس والروح والجسم والعقل وعلم التنجيم والكهانة وأطراف من اللغة والبلاغة والأدب. ويلقى كل فيلسوف بدلوه، ثم يردّ الرأى النهائى إلى أبى سليمان، فيسمعه الجميع خاشعين مكبرين، وبلسانهم يقول له فيروز: «عين الله عليك أيها السيد، فو الله ما نجد شفاء لداء الجهل إلا عندك، ولا نظفر بقوت النفس إلا على لسانك، ولا نعلم يقينا أنا لا نحسن شيئا إلا إذا فاتحناك، ولا يجمل ظننا بأنفسنا إلا إذا بعدنا عن مجلسك، ولو كانت هذه الفائدة (يريد ما سمعه منه فى المسألة المطروحة) بعينها عندنا متى كنا نأتى بها على هذه الطلاوة والحسن، أمتع الله الأرواح برؤيتك، والعقول بهدايتك (٥)». ولأبى حيان التوحيدى يد لا تجحد، لتسجيله ما كان يدور فى مجالس أبى سليمان من حوار يتناول كل وجوه الفكر والتفلسف فى عصره، على نحو ما صنع فى كتابه النفيس «المقابسات» وهى تعنى مجالس أبى سليمان وما كان يقبس منها من أضواء المعرفة. ويصرّح أبو حيان مرارا بعمله فيها وأنه هو الذى أخرجها فى صورتها المكتوبة (٦)، وينبغى أن لا نبالغ فى هذا التصور وخاصة بالقياس إلى أبى سليمان وإن قال إنه كان مصابا «بلكنة ناشئة من العجمة (٧)» واللكنة شئ والتعبير الفصيح شئ


(١) المقايسات (طبع بغداد) ص ٤٢٧.
(٢) المقايسات ص ٢٧٢.
(٣) المقايسات ص ٢٤٢ وهنا أيضا يذكر أن عيسى ابن على بن عيسى كان حاضرا.
(٤) المقايسات ص ٥٧ وقد توقف أبو حيان فى هذا الكتاب وفى الإمتاع والمؤانسة ليعرف بهم (انظر فهرسيهما).
(٥) المقايسات ص ٤٢٩.
(٦) انظر المقايستين: الثانية والرابعة.
(٧) الإمتاع والمؤانسة ١/ ٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>