به العروبة إلى أقصى حد حتى لتجعله لسانها الناطق بها طوال حياته. وهو قد تغذى بلبان البادية، وأفادته صقلا فى لغته ووقوفا على الغريب والشواذ اللغوية، كما أفادته صقلا فى فتوته وإحساسه بعروبته، ثم هو قد ثقف كل أنواع الثقافات فى عصره، واقترض منها فى شعره صيغا من النحو الكوفى الشاذ ومن الغرائب اللغوية ومن الأفكار والألفاظ والعبارات الفلسفية، ومن مصطلحات التصوف وشارات عباراته. وكل ذلك فصّلنا الحديث عنه فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى».
وكان أبواه قد توفيا، وأكثر القرامطة من غاراتهم على الكوفة فى سنوات ٣١٥ و ٣١٦ و ٣١٩ فرأى الفتى أن يبرح مسقط رأسه إلى بغداد، ومدح بها أحد العلويين ومتصوفا يسمى هرون بن على الأوراجىّ، ولا نراه يمدح خليفتها ولا حاكمها الأعجمى ولا أحدا من ذوى السلطان، وكأنما وقف حائلا بينه وبينهم ما رآه بأم عينه من فساد الحكم وتسلط الحكام الأعاجم على العرب، ويتألم لما أصابهم من ذلك وهوان، ويفعم صدره بمشاعر العروبة، وتثور نفسه ثورة عاصفة ويصيح من أعماقه:
إلى أى حين أنت فى زى محرم ... وحتى متى فى شقوة وإلى كم؟
وإلا تمت تحت السيوف مكرّما ... تمت وتقاس الذلّ غير مكرّم
فثب واثقا فى الله وثبة ماجد ... يرى الموت فى الهيجا جنى النّحل فى الفم
وهو يستحثّ نفسه والعرب من حوله أن يخلعوا زىّ المحرمين بالحج، يريد زىّ الاستسلام إزاء حكام بغداد الأعاجم الفاسدين، ويلبسوا مكانه دروع الحرب لمنازلتهم منازلة لا تبقى منهم ولا تذر. وييئس ممن حوله أن يثوروا معه ضد الفساد والظلم والطغيان ويولّى وجهه نحو بوادى الشام وحواضرها ويمدح شيوخ البدو وبعض رعاة الأدب فى طرابلس واللاذقية، وهو لا يكفّ عن المجاهرة بالثورة على الحكام الأعاجم الجائرين الذين لا يرعون للعرب حرمة ولا عهدا ولا ذمة، ويصيح فى قومه:
وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب ... ولا عهود لهم ولا ذمم
وهو يقول إنه لن يكتب للعرب فلاح طالما كانوا مستذلّين للحكام الأعاجم راضخين لسلطانهم مع ما يسومونهم به من العسف والقهر. ويمضى فى دعوته وثورته فى بوادى الشام من اللاذقية إلى بعلبك، ويحسّ فى أهل «نخلة» بالقرب من بعلبك تواكلا وتخاذلا وأنهم لا يسارعون معه إلى الثأر لكرامتهم المهدرة، فيستثيرهم بقصيدة ملتهبة يقول فيها: