نعى جدته، فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها رثاء حارا بميميته التى يقول فيها مفاخرا بقومه وأهله:
وإنى لمن قوم كأن نفوسهم ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
فلا عبرت بى ساعة لا تعزّنى ... ولا صحبتنى مهجة تقبل الظّلما
وهما بيتان رائعان يصوران الأنفة والعزة إلى أبعد حد، وهو جانب فى شعر المتنبى جعله محبّبا لكل عربى، إذ تتوهج أشعاره بخصال العربى الكريم وما يشعر به من العزة والأنفة والإباء والشعور بالكرامة والترفع عن الدنايا إلى أقصى حد، وكأنه ترجمان العرب عن فضائلهم العليا الوطيدة كالصخر. وبهذه النفس العاتية كان المتنبى ينظم شعره منذ سال على لسانه فى الكتّاب معبرا عن الروح العربية التى لا تقهر، مهما نزل بها من الكوارث والخطوب. وهو نفسه قد نزلت به كارثة أو محنة إخفاق ثورته، ومع ذلك لا يزال يهدر ويزمجر ويزأر، ولا يجد سميعا ولا مجيبا. وتحدّثه نفسه فى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة أن يقدّم مدائحه لولاة سيف الدولة الحمدانى، وكان أميرا لحلب واتسع بإمارته إلى حمص وأنطاكية منتزعا لهما من يد الإخشيديين، فقّدم المتنبى مدائحه إلى واليه على أنطاكية أبى العشائر الحمدانى ابن عمه، فأجزل له فى العطاء. ومضى فى مديحه، ويقدم سيف الدولة إلى أنطاكية فى جمادى الأولى من سنة سبع وثلاثين، فيمدحه المتنبى، ويعجب كل منهما بصاحبه، ويطلب سيف الدولة منه أن يصطحبه إلى حلب وينزل عنده، ويقول الرواة إن المتنبى اشترط عليه أن لا يقبّل الأرض بين يديه وأن لا ينشده مدائحه إلا قاعدا، ويجيبه سيف الدولة إلى شرطيه، ولعل فيهما ما يشير إلى شعور المتنبى بالعزة والكرامة شأن العربى الأصيل. ويظل المتنبى عنده تسع سنوات، ينظم فيها مدائح وأشعارا فى أميره، تؤلف ديوانا، وهو ديوان من أنفس دواوين الشعر العربى، لا من حيث كثرة قصائده فحسب، بل أيضا من حيث روعتها، وقد بلغت نحو أربعين قصيدة وإحدى وثلاثين مقطوعة، واستقرّ حينئذ فى نفسه أنه لقى أمل العرب وحاميهم وفارسهم الذى يمزّق جموع الروم شرّ ممزّق فى الشمال، وغدا يمزّق جموع الحكام الأعاجم من البويهيين فى بغداد، ويردّ للعرب دولتهم المفقودة. وكان سيف الدولة بحق بطلا مغوارا وشجاعا مقداما، حطم جيوش الروم مرارا واستنقذ منهم غير ثغر وحصن، وكان المتنبى يصحبه فى غزواته، حتى إذا عاد معه أنشده بحلب ما نظمه فى بطولته وبطولة جنوده. وكانت أول موقعة حضرها الشاعر مع البطل موقعة الحدث سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. وكان الروم قد استولوا على هذا الحصن، فرأى سيف الدولة أن يستردّه ويعيد بناءه، وأعدّ جيشا جرّارا