للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

زحف به من حلب، ولقيه الروم وهزموا هزيمة ساحقة، قتل منهم فيها ثلاثة آلاف من بينهم ابن القائد برداس فوكاس وصهره، وأسر منهم آلاف، وضعت فى أرجلهم الأغلال والسلاسل، وبنى سيف الدولة الحصن بين تكبير المسلمين وتهليلهم، وسجل المتنبى الموقعة فى ميمية رائعة خاطبه فيها مبتهجا بقوله:

وقفت وما فى الموت شكّ لواقف ... كأنك فى جفن الرّدى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم

ضممت جناحيهم على القلب ضمّة ... تموت الخوافى تحتها والقوادم

بضرب أتى الهامات والنصر غائب ... وصار إلى اللّبّات والنصر قادم

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدراهم

وهو يصور سيف الدولة فى المعركة رابط الجأش ثابت الجنان والرءوس تتطاير والأشلاء تتناثر، والموت يحدق من كل جانب، وكأنه فى جفنه وهو نائم عنه، مهابة ليس وراءها مهابة. وتمر به جنود الروم جرحى مهزومة هولا ورعبا، ولم يلبث أن لفّ جناحى جيشهم على القلب لفّة سريعة وحطم رءوسهم حطما إلى اللبّات والنحور. وولوا الأدبار مندحرين وسيف الدولة وجنوده ينثرونهم على جبل الأحيدب كما تنثر الدراهم على العروس ابتهاجا، وكأنه لم يكن يوم حرب، إنما كان يوم زفاف لنصر عظيم. والمتنبى لا يبارى فى وصفه لوقائع سيف الدولة مع الروم، حتى لكأنما نسمع فى قصائده السيفية قعقعة السلاح، وهى لا شك القطع الأرجوانية الرائعة فى ديوانه، وبحق قال ابن الأثير: «اختص المتنبى بالإبداع فى مواقع القتال. . وذلك أنه إذا خاض فى وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى يظنّ أن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا». وتوفّيت فى نفس هذا العام عام سبعة وثلاثين أمّ سيف الدولة فرثاها بقصيدة بديعة، وفيها يقول بيتيه المشهورين:

رمانى الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادى فى غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتنى سهام ... تكسّرت النّصال على النصال

ونفس عليه كثيرون من حاشية سيف الدولة-وفى مقدمتهم أبو فراس الحمدانى الشاعر-منزلته، فأخذوا يكيدون له عنده، وأحسّ المتنبى بكيدهم، وأن سيف الدولة يرهف سمعه إليهم، فأنشده قصيدة ميمية يعاتبه فيها عتابا مرّا بمثل قوله:

يا أعدل الناس إلا فى معاملتى ... فيم الخصام وأنت الخصم والحكم

إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم

<<  <  ج: ص:  >  >>