للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويحاول سيف الدولة مرضاته ولكن حاشيته تظل تكيد له، وعجيب أمر الناس فإنهم يظلون يحسدون الأديب، حتى لو كانت ملكاته من الخصب مثل المتنبى، بل هم يحسدونه لهذه الملكات ويحاولون أن يفسدوا بينه وبين راعيه. ومن عجب أن يسمع سيف الدولة لحساد المتنبى، وهو لم يكن يقدم له مدائح المعجب فحسب، بل مدائح المحب المفتون، وإنه ليعلن ذلك فى غير قصيدة من مثل قوله:

مالى أكتّم حبّا قد برى جسدى ... وتدّعى حبّ سيف الدولة الأمم

ولعله أول من خلط المديح بالحب بل إنه ليخلط به وصف المعامع، إذ يسوق فيه ألفاظ النسيب والتشبيب والغزل كقوله:

أعلى الممالك ما ينبى على الأسل ... والطّعن عند محبّيهنّ كالقبل

ويصمم على الرحيل، ويرحل إلى دمشق، ويلتقى فيها بأصحاب كافور وأوليائه، فيغرونه بلقائه فى الفسطاط وأنه لابد أن سيقيمه واليا على «صيداء» أو ما يماثلها من بلدان الشام، وكأنما زيّنت نفسه له حين يوليه ولاية من الولايات أن يستبد بالأمر دونه ويحقق أمانيه القديمة فى إقامة الدولة العربية المنشودة. وينزل بساحته على ضفاف النيل سنة ٣٤٦ وينثر عليه كافور أمواله، فيصارحه بمثل قوله:

وما رغبتى فى عسجد أستفيده ... ولكنها فى مفخر أستجدّه

ويلوّح فى غير قصيدة بوعد أصحابه له بأنه سيمنحه ولاية، ولكن دون جدوى، فينتقم منه شر انتقام إذ استطاع بخبرته فى الصياغة الشعرية أن يوجه له مدائح هى فى ظاهرها ثناء ولكنها فى باطنها هجاء مرّ من مثل قوله:

وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات فى نعمائه يتقلّب

والبيت يمكن أن يحمل على من يسبغ عليه العطاء فلا يعترف بالجميل، وبذلك يكون من الظلم بمكان. ويمكن أن يحمل على كافور وأنه يحسد من يسدى إليه العطاء، وبذلك يصفه بدناءة لا تدانيها دناءة. ويقول بعض الباحثين إن المتنبى استذلّ نفسه حين رضى بمدح كافور الأعجمى الحبشى، وهو الذى طالما هجا الأعاجم، ويستطردون فيقولون إنه تخلّى عن مسئوليته الأدبية. وليس هناك تخل من المتنبى ولا ما يشبه التخلى، فقد مدح كافورا فى سبيل أن يصبح صاحب ولاية وسلطان، فلما ماطله، سلّ عليه لسانه، وظل له عنده شعوره الجامح بكرامته وفتوة نفسه، حتى كأن نفسه من طبيعة فوق طبيعة نفوس الناس، فهى لا تضعف ولا تهرم، مهما تقدمت بالمتنبى السن ومهما اشتعل عذاره شيبا، بل لكأن شعرات شيبه البيضاء حراب مشرعة لنزال أعدائه، حراب من

<<  <  ج: ص:  >  >>