وهذا الوجد فى شعر الغزل البدوى وما يثير فى النفس من حنين ومن ظمأ لا يرتوى إلى رؤية المحبوبة استغله المتصوفة منذ ظهوره للتعبير عن حبهم للذات الإلهية بما فيه من مواجد ومن لوعات، لوعات تلذع فى الفؤاد كأنها نيران محرقة، فإنهم وجدوا فيه خير معبّر عن تشوقهم لرؤية الذات الإلهية، وأنىّ لهم! ، فمضوا يتغنون به فى حفلات الذكر المعروفة حين ينعقد الذاكرون لله فى صفين متقابلين، ويقف منشد بينهما، يرتّل أشعار الوجد والهيام تارة مما نظمه الصوفية وتارة مما نظمه الشريف الرضى ومهيار وغيرهما ممن تلاهما واستلهم طريقتهما البدوية النجدية فى الغزل، لما أحسوا فى هذه الطريقة من الوجد والصبابة، بل من سعة النداء فيها، وهى سعة تلاحظ أيضا فى الغزل الصوفى، وكأن هذين الضربين من الغزل يلتقيان، وهو التقاء هيأ لأن يتأثر الغزل عامة بالشعر الصوفى، وأن يتيح ذلك الفرصة لظهور ما يمكن أن نسميه الشعر الوجدانى الصافى، على نحو ما سنرى عند الحاجرى والتّلعفرىّ.
ولا بد أن نلاحظ أن وتر الغزل البدوى الذى شدّه المتنبى إلى فيثارته ظل الشعراء بعده لا فى العراق وحده بل فى جميع الأقاليم العربية يشدّونه إلى قيثاراتهم حتى العصر الحديث، إذ وجدوا فيه فسحة للتعبير عن حبهم ووجدهم وما يثيران فى القلوب من العواطف والأهواء. وقد تفجرت ينابيعه تفجرا فى مقدمات المدائح النبوية التى أخذت تجرى على كل لسان منذ القرن السابع الهجرى. ومرّ بنا فى الفصل الأول من هذا القسم حديث طويل عن تغنى الجوارى والحرائر فى بغداد لزمن أبى حيان التوحيدى، وما ذكره من أنه كان ببغداد أربعمائة وستون جارية ومائة وعشرون حرة يتغنين بأشعار غزلية تدلع الوجد والحنين واللوعة فى قلوب الناس من المتصوفة وغير المتصوفة، فتتفتّت قلوبهم وتتحدر دموعهم ويعلو نحيبهم، ومنهم من يسقط مغشيا عليه، ومن يلطم وجهه ويخرّق ثيابه أو يمزّقها، ومن يضرب الأرض بقدمه أو بجسده ويرغى ويزبد. وكان وراء هؤلاء المغنيات مغنون يعدّون أو قل لا شك أنهم كانوا يعدّون بالعشرات إن لم يكن بالمئات، كانوا يزلزلون الأرض-كما يقول أبو حيان-بأصواتهم الناعمة وألحانهم الرخيمة ودماثتهم الحلوة. وكل ذلك عمل على ازدهار شعر الحب وأغانيه.
وطبيعى أن يتكاثر شعراء الغزل فى هذا العصر كما تكاثروا فى العصور السابقة، وأن لا يقف ذلك عند شعراء القرنين الرابع والخامس وأن يتعدّاهم إلى شعراء القرنين السادس والسابع ومن جاء بعدهم، ومن أهم الشعراء الذين عاشوا للغزل وشعر الصبابة فى القرن