وأكبر الظن أنه قد اتضحت الآن الموضوعات الأساسية التى كان ينظم فيها امرؤ القيس شعره قبل مقتل أبيه، وهى التشبيب والغزل القصصى الصريح، ووصف الطبيعة المتحركة بما فيها من خيل ووحش والطبيعة الصامتة بما فيها من أمطار وسيول. فتلك هى الموضوعات التى تستغرق أشعاره الأولى. وتجمعها المعلقة جميعا، بينما تقف المطولة الثانية (ألا عم صباحا أيها الطلل البالى) عند التشبيب والقصص الغرامى، ووصف الوحش والفرس وهو فى أثناء وصفهما يعرض لصيده وما يجده فيه من لذة ومتاع ولهو.
وكتب لامرئ القيس أن لا تجرى حياته على هذه الوتيرة من الفراغ الذى يعد لاقتناص اللذات فى اتباع المرأة واللهو بها والمتعة بركوب الخيل والصيد عليها وتملّى مناظر الطبيعة، فقد قتل أبوه، وانقلبت حياته من حياة لاهية إلى حياة جادة ومحاولة عاثرة فى الأخذ بثأر أبيه ورجع سلطان كندة على بنى أسد، وكأنه كان يحس ما ينتظره حين قال فى مطولته (ألا عم صباحا أيها الطلل البالى):
كأنى لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الرّوىّ ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال (١)
ولعله نظم هذه القصيدة فى إبان الدورة الثانية من حياته.
ونحن لا ننتظر منه فى هذه الدورة سوى الحزن والألم العميق، فهذا أبوه حجر يقتل وهؤلاء أعمامه يلقون نفس المصير، ومن قبلهم قتل جده الحارث، وهو يسعى فى سبيل الأخذ بثأر أبيه، والمنذر بن ماء السماء يطلبه وتتحاماه القبائل والعشائر وهو يتنقل فيما بينها يستغيث ولا مغيث. وربما لقى فى أول الأمر شيئا من العون، ولكن ذلك لم يستمر، فقد ازوروا عنه، وهو يطلب من يجيره، وسيف المنذر مصلت يلمع أمام عينيه. فكان طبيعيّا أن يشكو الدهر وأن يتحدث عن مصيره.
وهنا تلقانا مقطوعة رواها الأصمعى غن أبى عمرو بن العلاء، تصور حزنه على آبائه
(١) أسبأ: أشترى. الزق: دن الخمر. الروى: المملوء. الإجفال: الانهزام فى سرعة.