للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار فى أطراف كبريت

وقرن البنفسج الذى ترفّ أوراقه الرطبة ويترقرق الماء فى غصنه بلهب نار فى أعواد كبريت جافة يدل على قدرة خيالية بديعة. ومما أنشده له ابن خلكان قوله:

وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا

سفرن بدورا وانتقبن أهلّة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا (١)

وأطلعن فى الأجياد بالدرّ أنجما ... جعلن لحبّات القلوب ضرائرا

والتقسيم فى البيت الثانى بديع فقد جعلهن حين سفرن عن وجوههن بدورا وحين انتقبن وظهرت جباههن أهلة، وحين تبخترن غصونا وحين التفتن جآذر، وبذلك ومثله عدّ شاعرا مبدعا. ولا ريب فى أن مشاركة ذوى الحرف والأميين فى شعر العصر دليل قوى على صلته بالشعب، فأبناؤه جميعا يشاركون فيه حتى الأميون الذين لا يقرءون ولا يكتبون.

ولم تقف مشاركة العامة فى الشعر عند هذا الحد، فقد أخذ يظهر بينهم شعراء لا ينظمون شعرا فصيحا، وإنما ينظمون شعرا ملحونا بلغتهم العامية، وأخذ ذلك يظهر بوضوح منذ القرن السادس الهجرى، وخير كتاب يصور هذا الجانب كتاب العاطل الحالى والمرخّص الغالى لصفى الدين الحلّى، وفيه يتحدث صفى الدين بالتفصيل عن الفنون العامية، المواليا والزجل والقوما والكان وكان، ويقول إن الثلاثة الأخيرة ملحونة أبدا، أما المواليّا فقد تكون معربة وقد تكون ملحونة، ويقول إن أول من اخترعها أهل واسط اقتطعوها من بحر البسيط وجعلوها معربة مثله، ومعروف أن وزنها «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن» وهى أربعة شطور بقافية واحدة، ويقول صفى الدين إن أهل واسط تغزلوا بها ومدحوا وهجوا، والجميع معرب، إلى أن وصل إلى البغاددة فلطّفوه ولحنوه وسلكوا فيه غاية لا تدرك، ويذكر من أمثلة المواليا المعربة قول الخباز البغدادى فى مديح الصاحب بن الدّباهى (أحد متولّى الخراج فيما يبدو):

بكم قرى نهر عيسى أصبحت كالمدن ... أى باذلين القرى أى عاقرين البدن (٢)

ولو تشاءوا بأطراف الرماح الّلدن ... صيّرتم الأسد تحرث فى مكان الفدن (٣)


(١) سفرن: كشفن عن وجوههن-انتقبن: لبسن النقاب. مسن: تبخترن. الجآذر جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية.
(٢) أى: يا القرى: الضيافة. البدن: النوق والبقر التى تذبح قربانا أو للضيوف.
(٣) اللدن: اللينة: كناية عن حدة قطعها. الفدن. الثيران.

<<  <  ج: ص:  >  >>