يتعللون عنه بالطعام والشراب، وهو فى انتظارهم، وهم جادون فى المسير إليه.
ويصغر الناس وتصغر أطماعهم فى عينه، ويراهم ضعافا كالعصافير والذباب والدود، ومع ذلك يسقطون على أطماعهم كالذئاب الضارية. ويطلب إلى عاذلته أن تكف عن لومه لتركه اللهو، فإن التجارب غيرت شخصيته خلال ما مر به من أهوال الحياة. وهو ينتسب، فلا يجد أمامه إلا موتى، وهو يترقب نفس الأجل المحتوم، وكأنه شخص آخر سوى هذا الشخص الذى كان يركب الخيل وينضيها فى الفلاة الواسعة، والذى كثيرا ما انتظم فى جيوش أبيه الكثيفة، يغنم المغانم الكبيرة. وها هو اليوم يطوف فى الآفاق وراء مجده المضيّع فلا يظفر إلا بالخيبة واليأس القاتل. وماذا يرجو بعد هذه الصخور الصبة من آبائه وقد واراها التراب. إنه ينتظره نفس المصير، فالموت يفتح فاه، وأظفاره وأنيابه توشك أن تفترسه افتراسا كما افترست جده الحارث وأباه حجرا وعمه شرحبيل يوم الكلاب.
والمقطوعة رائعة لأنها تصور لنا إحساسه بعبث الكفاح ضد المنذر وكيف كان هذا الإحساس يتعمقه فى تلك الفترة من حياته. وليس له بعد ذلك أشعار تستحق الوقوف عندها سوى بعض مقطوعات قصيرة تتداخل فيها رواية الأصمعى مع رواية هشام بن الكلبى، وفيها يمدح ويهجو بعض من كانوا يكرمون جواره أو يسيئون هذا الجوار فلا يمدون يد العون إليه، وهى شظايا صغيرة لا توضح منهجا فى مديح ولا هجاء.
وأكبر الظن أن فيما قدمنا ما يدل على قيمة امرئ القيس، فهو الذى نهج للشعراء الجاهليين من بعده الحديث فى بكاء الديار والغزل القصصى ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والشكوى من الدهر، ولعله سبق بأشعار فى هذه الموضوعات، ولكنه هو الذى أعطاها النسق النهائى، مظهرا فى ذلك ضروبا من المهارة الفنية، جعلت السابقين جميعا يجمعون على تقديمه، سواء العرب فى أحاديثهم عنه أو النقاد فى نقدهم للشعر الجاهلى، يقول ابن سلام: «سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منها: استيقاف صحبه والبكاء فى الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض وشبّه الخيل بالعقبان والعصى، وقيّد الأوابد، وأجاد فى التشبيه، وفصل بين النسيب وبين