للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣٥٥ حتى سنة ٣٥٨ إذ عاد إليها خالى الوفاض بعد أن طال وقوفه بباب ابن العميد. وكان تعرّف فى هذه الرحلة الطويلة إلى ابن مسكويه وبعلم من أعلام الهندسة والرياضة هو أبو الوفاء المهندس. وطبيعى أن يعود أبو حيان إلى عمله فى الوراقة ونسخ الكتب.

ويحدث فى سنة ٣٦٣ أن تشتد مظالم الدولة للرعية بما ترهقها به من الضرائب وأن تثور الطبقات البائسة المحرومة، واستفحل أمر العيّارين وسيطروا على بغداد ونهبوا كثيرا من الدور خاصة دور الأغنياء، وكان مما نهبوه دار التوحيدىّ، فقد أخذوا كل ما كان بها من ذهب وثياب وأثاث وكل ما كان جمعه منذ أيام صباه كما يقول هو نفسه فى الجزء الثالث من كتابه الإمتاع. ولعل هذا ما جعله يهاجم العيّارين لا فى هذا الكتاب وحده، بل أيضا فى كتاب الصداقة والصديق، بل إنه يهاجم العامة جميعا حتى يقول فى الليلة السادسة عشرة من كتاب الإمتاع: «طلب الرفعة بينهم ضعة والتشبه بهم نقيصة». وهو استعلاء غريب على العامة من رجل أسرته منهم ونشأ بينهم. وأهم من ذلك أنه يعترف بما أكسبته الوراقة من ذهب وثياب وأثاث، ومع ذلك نراه هاجيا لهذه المهنة أشد الهجاء ثالبا لها أشد الثلب حتى ليسميها «حرفة الشؤم». وهو يضيف إلى ذلك شكوى مرة من البؤس، مما جعل كل من كتبوا عنه فى هذا العصر يرثون لبؤسه وفقره، معللين ذلك بأنه كان يعيش على الوراقة، مع أنه كان يعيش منها فى عصره بعض كبار العلماء دون شعور بالبؤس، بل كان منهم من يكتفى بالقليل مما ينسخ فى حدود حاجته على نحو ما يروى ياقوت فى ترجمته للسيرافى أستاذ أبى حيان فى النحو واللغة من أنه كان لا يخرج إلى مجلسه فى القضاء بين الناس أو فى محاضرة طلابه حتى ينسخ عشر ورقات بعشرة دراهم بقدر مئونته يوميا. وطبعا لم يكن أبو حيان وأمثاله من المحترفين للوراقة يكتفى بمثل هذه الورقات القليلة. وكان يحيى بن عدى أستاذه فى علوم الأوائل وما يتصل بها من الفلسفة يحترف الوراقة على نحو ما يروى القفطى فى ترجمته، كما مر بنا، وكان يكتب فى اليوم والليلة مائة ورقة.

فالوراقة لم تكن مهنة بائسة كل هذا البؤس الذى تصوّره المعاصرون من شكوى أبى حيان المستمرة من الضنك وضيق العيش. وفى رأينا أن بؤسه كان بؤسا نفسيّا أكثر منه بؤسا ماديا، فقد كان يرى كثيرين ارتفعوا فى الحياة وهم دونه فى الثقافة والمعرفة والأدب والكتابة، فكان يشعر بضجر شديد وبشقاء لا حد له يملأ قلبه حسرة ولوعة، وظل هذا الشعور يلازمه حتى الأنفاس الأخيرة من حياته.

على كل حال لم تمنحه الوراقة راحة ولا رضا ولا طمأنينة، ولعله من أجل ذلك فكر أن يضيف إليها بعض مؤلفات يكتبها أو يهديها باسم بعض الأعيان أو بعض ذوى المناصب

<<  <  ج: ص:  >  >>