الكبرى، وأيضا فإن ذلك لم يعد عليه بشئ من طمأنينة النفس وراحة الفؤاد فظل يشعر بالتعاسة والقلق المضنى. . ومن أوائل ما ألفه كتابه «البصائر والذخائر» الذى نشره الدكتور إبراهيم كيلانى بدمشق فى ستة أجزاء، ويقول التوحيدى فى مقدمته إنه ابتدأ فيه سنة ٣٥٠ وانتهى منه فى سنة ٣٦٥ كما يقول إنه استقاه من كتابات الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وغيرهم من أعلام الأدب فى القرن الثالث الهجرى. والكتاب على طريقة الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين، ويحمل كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال النساك وأشعار الشعراء وكلام حكماء الفرس واليونان والهند، مما قرأه أبو حيان فى أثناء نسخه للكتب من كل لون وللدواوين القديمة والحديثة وفيه كثير مما سمعه من أساتذته ومعاصريه. وليس له فيه إلا جودة الاختيار وإلا مقدمته التى يدعو فيها إلى الزهد فى الحياة الدنيا الزائلة. وهى نزعة كانت تمس نفسه فى الأربعينيات على ما يظهر، وكذلك فى الخمسينيات من عمره وبعد ذلك، وهى التى دفعته إلى الحج، غير أنها لم تكن تتعمقه، ولذلك نراه يطلب الدنيا فيذهب إلى الرّىّ وأرّجان وافدا على أبى الفضل بن العميد، ويرجع بخفى حنين. ويدور الزمن ويتولى الوزارة ابنه أبو الفتح، ويزور بغداد ويتناقل الناس أخبار عطاياه للعلماء وفى مقدمتهم السيرافى وأبو سليمان المنطقى، ويشد أبو حيان الرحال إليه فى الرىّ سنة ٣٦٦ راجيا أن يعوضه ما نهبه منه العيّارون منذ ثلاث سنوات، ويقدم إليه رسالة رواها ياقوت تكتظ بملق مسرف غاية الإسراف وإلحاح شديد فى السؤال وطلب النوال، حتى لكأنه من أهل الكدية والشحاذة الأدبية. وما كان أغناه عنها، فإن أبا الفتح قابلها بالإعراض، وكان أبو حيان يسرع دائما إلى الهجاء والذم، فربما بلغه عنه شئ منهما على الأقل يتصل بأبيه أبى الفضل بن العميد الذى ازورّ عنه. وتتطور الحوادث سريعا، ويفتك مؤيد الدولة البويهى بأبى الفتح ويخلفه الصاحب بن عباد، فيعرض عليه أبو حيان خدماته، ويكلفه بالوراقة له والنسخ، ويظل ناسخا له مدة ثلاث سنوات حتى سنة ٣٧٠. وكان يحضره مجالسه وعلى موائده، فيتدخّل فيما يكون من حديث ببجاحة وزهو وتعالم مما ملأ نفس الصاحب عليه حنقا وموجدة، فبرم به الصاحب برما شديدا، وأبو حيان لا يتراجع، بل يزداد وقاحة. ولا يبعد أن يكون أبو حيان قد أخذ يسلّ عليه لسانه، وأن شيئا من ذمه نقل إليه. على كل حال فسد ما بينهما فسادا من الصعب إصلاحه أو رتقه. وأخذ الصاحب يجفوه ويصدّه عن مجالسه صداقبيحا. وليس ذلك فحسب فقد حرمه من مكافأته على ما ينسخ، إذ حبس عنه أجرته، وكلما لقيه تجهّم له، مما اضطر أبا حيان أن يرحل عنه بعد عمل متواصل لمدة ثلاث سنين دون أن يأخذ منه كما قال درهما