للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويوضح مذهبه الصوفى كتابه اللمع الذى أشرنا إليه، وفيه يفيض فى الحديث عن حقيقة التصوف ومذهب الصوفية ومقاماتهم وأحوالهم. وتلقن عنه المذهب فى نيسابور تلميذه أبو عبد الرحمن السلمى، ولقّنه بدوره عبد الكريم (١) القشيرى النّيسابورى، وتتلمذ عبد الكريم أيضا على أبى على الدقّاق، وكان متصوفا سنيا، فوصل تلميذه بهذا التصوف، بل ملأ قلبه به حماسة كما ملأه نفورا من التصوف الفلسفى وما دخل عليه من أفكار بوذية هندية كفكرة التسول والمسكنة، وكذلك ما دخل عليه من أفكار الاتحاد بالذات العلية والحلول. وما توافى سنة ٤٣٧ للهجرة حتى يؤلف رسالته المشهورة التى طوّفت الآفاق غربا وشرقا وقد وجهها إلى جماعات الصوفية فى البلدان الإسلامية، ليصحح لهم أفكارهم عن التصوف بما رسمه فيها من مبادئ التصوف السنى الحقيقى وما سجله من سير أعلام التصوف وأقوالهم، مما يصل التصوف وصلا وثيقا بالشريعة، وهو يستهلها بقوله:

«اندرست الطريقة بالحقيقة، ومضى الشيوخ الذين كان بهم الاهتداء، وقلّ الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسننهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه، وارتحلت عن القلوب حرمة الشريعة، فعدّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام، وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا فى ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطى المحظورات. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادّعوا أنهم تحرّروا من رقّ الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية».

وبهذه الرسالة العظيمة التى شرقت وغربت وطارت كل مطار رفع القشيرى الحواجز التى كانت قد استحكمت بين أهل السنة والمتصوفة بل لقد أثبت أنها أقواس وهمية، فالتصوف ليس خصما للشريعة، بل هى قوامه وصراطه الموصّل إليه وأساسه وعماده.

ولم يلبث متصوف كبير أن أحكم هذه الصلة إحكاما وثيقا، وهو أيضا نيسابورى، أصله طوسى حقا ولكنه تلقن التصوف السنى فى نيسابور حيث مدرسته الكبرى: مدرسة أبى نصر السراج والقشيرى، ونقصد أبا حامد (٢) الغزالى المتوفّى سنة ٥٠٥ وقد لزم فقهاء


(١) انظر مصادر ترجمة القشيرى فى الفصل الرابع من هذا القسم.
(٢) انظر فى الغزالى المنتظم ٩/ ١٦٨ واللباب ٢/ ١٧٠ والوافى بالوافيات ١/ ٢٧٤ وابن خلكان (طبعة دار =

<<  <  ج: ص:  >  >>