من أمواله. ويستأذنه ابن سينا فى دخول مكتبة القصر ويأذن له فيجد فيها ما لا يحصى من الكنوز فى علوم الأوائل. ولم تلبث الدولة السامانية أن انهارت فترك بخارى إلى خوارزم، ونزل بعاصمتها «خيوة» عند أميرها مأمون مع من كانوا يلوذون برعايته مثل البيرونى. وسمع محمود الغزنوى بهذه الصفوة من العلماء والمتفلسفة والأطباء فى بلاط أمير خوارزم، فأرسل إليه فى طلبهم، كما مر بنا، وأبى ابن سينا أن يذهب إليه، وأخذ يتنقل فى بلدان إيران حتى وصل إلى جرجان وأميرها قابوس بن وشمكير، فأكرمه وأنزله منزلة عليا، حتى إذا قتل سنة ٤٠٣ ولى وجهه نحو أصفهان وأميرها البويهى علاء الدين بن كاكويه. وظل هناك إلى أن أدركته الوفاة بهمذان سنة ٤٢٨ هـ/١٠٣٦ م وقبره معروف بها إلى اليوم.
وعند ابن سينا تمتزج الفلسفة اليونانية بالحكمة الشرقية والروح الإسلامية، ويلقّب بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابى، وأكثر مؤلفاته بالعربية، وله مؤلفات بالفارسية، وأيضا له قصائد فلسفية بجانب نثره الفلسفى، وله قصص فلسفية كقصة سلامان وأبسال وقصة حىّ بن يقظان ورسالة الطير. ومصنفاته تعدّ بالمئات، وأشهرها كتاب القانون فى الطب وكتاب الشفاء فى الإلهيات وعلوم الطبيعة والرياضيات. وكان الكتاب الأول عماد الغربيين فى دراساتهم الطبية بجامعاتهم حتى القرون القريبة، وقد ترجموه إلى اللاتينية، ويقال إنه طبع بها ست عشرة مرة فى القرن الخامس عشر الميلادى وعشرين مرة فى القرن السادس عشر. وكتاب الشفاء دائرة معارف كبرى تتناول كل فروع الفلسفة.
وابن سينا يتأثر بأرسططاليس، وحاول جاهدا أن يوفق بين آرائه وآراء أفلاطون والأفلاطونية الحديثة والإسلام. ونحا فى كثير من أفكاره نحو الفارابى، وهو يتفق معه فى تفاريع المنطق وفى الإلهيات وما ذهب إليه من أن المادة لا تصدر عن الله، لأنه منزّه عن كل مادة وكل جسم، والله واحد من كل وجه، فلا يصدر عنه كثير لا بالعدد ولا بالانقسام إلى مادة وصورة، وإلا اختلفت الجهات فى ذاته. وهو-لذلك-لا يصدر عنه إلا واحد هو العقل الأول. وعن هذا العقل يصدر عقل يدبّر الفلك (الملائكة) ومنه تصدر نفس كما تصدر مادة هى جرم الفلك، وأخيرا العقل الفعّال الذى تصدر عنه مادة الكائنات فى الأرض وصورها الجنسية كما تصدر النفوس الإنسانية. وطبيعى أن لا يرتضى أهل السنة والمعتزلة منه هذه الآراء. وإذا نحّيناها عن فلسفة ابن سينا وجدناه بعدها يحاول التوفيق بين فلسفته وبين القائلين بسلطان القضاء، فيقول إن كل ما فى الوجود خيرا كان أم شرا بقضاء الله وقدره على نحو ما توضح ذلك رسالته فى القدر. وكان يرى أن من الموجودات ما هو خير محض كالأمور العقلية والسماوية، ومنها ما يغلب عليه الخير كالوجود