وكان يذهب إلى أن العقل أعلى قوى النفس، وعنده أن النفوس تنقسم إلى مراتب أعلاها النفوس الكاملة التى تتمسّك بالمثل العليا وبالخير المحض الخالص وكان يعدّ الموت بطلانا للجسم، أما النفس فتبقى خالدة وعلى اتصال بالعقل الكلى، وسعادتها وشقوتها حينئذ ترجعان إلى اتحادها به قوة وضعفا. وفى ذلك يكون الثواب والعقاب.
ويخطو ابن سينا بفلسفته خطوة، فيمزجها بالتصوف الذى تفيض على المتصوف فيه اللذات الروحية فلا يرى فى الكون سوى مبدعه وجماله على نحو ما تصور ذلك قصتاه «حى ابن يقظان» و «سلامان وأبسال» وسنلمّ بهما فى الفصل الأخير. وفى الأولى يعود حى بن يقظان الفيلسوف إلى مورد المعرفة الصوفية الإلهية، بينما يتخلص أبسال فى الثانية من أغلال اللذات الحسية موغلا فى اللذات العقلية وما يطوى فيها من لذات الصوفية الروحية.
ويوضح ذلك فى كتابه الإشارات، فيقول عن الصوفى ويسميه العارف إنه المتصرف بفكره إلى قدس الله مستديما لإشراق نور الحق على نفسه، وهو يعبد الله لأنه مستحق للعبادة لا رهبة من عقابه ولا رغبة فى ثوابه.
والبيرونى (١) هو محمد بن أحمد المولود سنة ٣٦٢ بضاحية من ضواحى خيوه عاصمة خوارزم تسمى بيرون، ولا نعرف شيئا واضحا عن نشأته، ويبدو أنه تلقن معارفه الأولى بخيوه، ولم يلبث أن اتجه إلى الرياضيات والفلك فحذقهما حذقا رائعا، وشغف فى أثناء ذلك بمعرفة أحوال البلدان والأمم، ولم يكد يتدرج فى العقد الثالث من عمره حتى بارح موطنه إلى طبرستان حيث عاش فى رعاية أميرها قابوس، وإليه قدّم أول كتبه:«الآثار الباقية عن القرون الخالية» الذى فرغ من تأليفه حوالى سنة ٣٩٠ وقد صوّر فيه المناهج التاريخية والتقاويم الحسابية لكثير من الأمم المتحضرة وهو أول كتبه العظيمة، وقد طبعه سخاو فى ليبزج سنة ١٨٧٨ وقدم له بمقدمة نفيسة عن البيرونى وأعماله ومكانته. وكان قابوس متقلبا، فخشى البيرونى على نفسه منه، وتركه إلى موطنه وأميره فيه «مأمون خوارزم». وسمع به وبعلمه محمود الغزنوى، فطلبه من أميره، وأبدى البيرونى-فما
(١) انظر فى البيرونى تتمة صوان الحكمة للبيهقى ومعجم الأدباء ١٧/ ١٨٠ وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ص ٤٥٩ ومقدمتى سخاو للآثار الباقية وتحقيق ما للهند من مقولة وبراون ١١١، ١٢١ وكاجورى فى تاريخ الرياضيات ومادة بيرونى فى دائرة المعارف البريطانية وكتاب العلم عند العرب لألدومييلى ص ١٨٨ وما بعدها ومقالتى بروكلمان وفيدمان عن البيرونى فى دائرة المعارف الإسلامية وتاريخ الأدب الجغرافى لكراتشكوفسكى (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ١/ ٢٤٥ وما بعدها.