للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الخراب الذى رافق المغول والذى عمّ إيران، فقد حرقوا ودمّروا كل ما صادفهم من حضارة، وكانت الحضارة العربية هى التى تسود فى كل تلك الديار، وكان يسود معها الشعر والعلم العربيان، فتراجعت تلك الحضارة أمام السيول المغولية وأمام ما أنزل بها جنكز خان وهولاكو من تدمير، حتى لقد كانا يحرقان المكتبات. أما المدن فقد أنزلا بها خرابا لا مثيل له فى التاريخ،

وما أنزل هولاكو ببغداد من دمار معروف مشهور. وكان ذلك كله ضربة قاصمة للحضارة العربية فى إيران وبالتالى للشعر والعلم العربيين، ومع ذلك فقد ظل العلم العربى حيا وبالمثل الشعر، وإن فقدا كثيرا من نشاطهما الهائل القديم. ولابد أن نعرف أن لغة العلم فى إيران ظلت حتى القرن العاشر الهجرى هى العربية، فبها كان يكتب علماؤهم وفلاسفتهم من أمثال ابن سينا والبيرونى فى القرن الخامس والزمخشرى والفخر الرازى فى القرن السادس ونصير الدين الطوسى والكاتبى القزوينى المعروف بدبيران فى القرن السابع. وسعد الدين التفتازانى وعضد الدين الإيجى فى القرن الثامن والسيد الشريف الجرجانى فى القرن التاسع. ففى كل هذه القرون-وخاصة حتى القرن السابع-لم تستطع الفارسية أن تستولى تماما على ألسنة العلماء الإيرانيين، حقا قد يكتب العالم بها رسالة أو يترجم بها عملا من أعماله، كما حدث أحيانا عند ابن سينا والبيرونى، ولكن تظل العربية لغته الأساسية التى يذيع بها كتبه ومعارفه، ومرجع ذلك إلى أن العربية كانت تفوق الفارسية فى القدرة على التعبير العلمى بفضل ما تتسم به من مرونة فى الاشتقاقات، وأيضا لأنها كانت قد أصبحت فعلا لغة علمية، تزخر بمصطلحات العلم، فكان من الصعب أن تحل الفارسية محلها، ويصوّر ذلك البيرونى قائلا: «إلى لسان العرب نقلت العلوم فى أقطار العالم، فازدانت وحلت إلى الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها فى الشرايين والأوردة. . والهجو بالعربية أحب إلىّ من المدح بالفارسية. ويعرف مصداق قولى من تأمل كتاب علم قد نقل إلى الفارسية. [فسيرى أنه] قد ذهب رونقه، وكسف باله، واسودّ وجهه، وزال الانتفاع به إذ لا تصلح هذه اللغة [الفارسية] إلا للأخبار الكسروية والأسحار الليلية (١)».

وظل هذا الشعور ماثلا فى نفوس كثيرين من العلماء الإيرانيين حتى القرن العاشر الهجرى، فكانوا يشبّون فى مهاد العربية وينهلون من ينابيعها الأدبية، بل إننا نجد ذلك نفسه عاما بين الشعراء الذين اتخذوا الفارسية لسانا لهم منذ الرودكى، ولذلك مظهر عام


(١) انظر كتاب الأدب الفارسى فى العصر الغزنوى للدكتور على الشابى (طبع تونس) ص ٣٣٨ نقلا عن كتاب الصيدلة للبيرونى.

<<  <  ج: ص:  >  >>