للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس هذا وحده كل ما دعا الشعر إلى النشاط فى إيران، فقد كان يعدّ جزءا لا يتجزّأ من الثقافة العربية التى كان الناس يعكفون عليها فى شغف، وهذا هو السر فى أنك قلما تجد فقيها أو فيلسوفا فى تلك البيئة إلا وهو ينظم الشعر، ويتخذه أداته فى التعبير عن مشاعره، تجد ذلك عند البيرونى فى ترجمته بمعجم الأدباء كما تجده عند ابن سينا، ويتسع ذلك عند الفقهاء، وكأنهم كانوا يعدّون الشعر من آلات عملهم، وارجع إلى السّبكى فى طبقاته فإنك تجده من وقت إلى آخر حين يترجم لفقيه يذكر له أشعارا مختلفة فى الغزل وغير الغزل، من ذلك أن نراه يترجم لمحمد بن عبد العزيز النّيلى أحد أئمة خراسان المتوفى سنة ٤٣٦ فيذكر له أشعارا منها هذه الأبيات الغزلية البديعة (١):

ما حال من أسر الهوى ألبابه ... ما حال من كسر التصابى بابه

نادى الهوى أسماعه فأجابه ... حتى إذا ما جاز أغلق بابه

أهوى لتمزيق الفؤاد فلم يجد ... فى صدره قلبا فشقّ ثيابه

ومن كبار أئمة الشافعية فى العصر القفّال الشاشى ناشر مذهب الشافعى فيما وراء النهر، وكان أكبر من صاح فى قومه لغزو الروم عام النّفير، وذلك أن نقفور إمبراطور الروم أرسل إلى الخليفة المطيع قصيدة يتوعده فيها ويتوعد المسلمين بمثل قوله (٢):

ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم ... وضعفكم إلا رسوم المعالم

ومضى يفاخر بانتصاراته وانتصارات أسلافه فى كريت (إقريطش) وسروج وعلى أبواب سميساط والحدث ومرعش والمصّيصة وطرسوس. وردّ عليه فخره ونقضه نقضا الشيخ القفّال بقصيدة طنانة يذكر له فيها انتصارات المسلمين عليهم قرونا متطاولة وما قتلوا من مئات الألوف من رجالهم وما سبوا من آلاف الجوارى الروميات، بل ما قتلوا وسبوا من آلاف الآلاف على مر السنين، وإن صواعق الموت لتوشك أن تنزل به وبجنوده، ترسلها عليهم زحوف الخراسانيين جنود الملك السامانى منصور بن نوح (٣٥٠ - ٣٦٦ هـ‍) التى تزحف بقضّها وقضيضها ورعودها وبروقها المميتة، يقول:

أنتك خراسان تجرّ خيولها ... مسوّمة مثل الجراد السّوائم


(١) السبكى ٤/ ١٧٩
(٢) السبكى ٣/ ٢٠٥ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>