للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منصورا، ومع ذلك نراه-حين يلبىّ نداء ربه-يتأثر عليه تلميذه تأثرا عميقا، فيرثيه بقوله (١):

وقائلة: ما هذه الدّرر التى ... تساقط من عينيك سمطين سمطين

فقلت هو الدرّ الذى كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عينى

وهى صورة بديعة، فدرر دموعه ثمرة سماعه على أستاذه، أودعها الزمخشرى فى سمعه فجرت من مدمعه.

وعلى نحو ما تفجعوا على العلماء وبكوهم بدموع غزار تفجعوا على أبنائهم وأمهاتهم وآبائهم وللباخرزى رثاء لأبويه، ولأبى الحسن الحسينى البلخى رثاء جيد لأمه (٢).

ومرّ بنا عند الطغرائى رثاؤه لزوجته التى ماتت فى ريعان الشباب، وفى ديوانه مرثية لها قافيّة، يصور فيها الموت وهو يقبض كفها ويرسلها وعيناها ساهمتان مطرقتان، وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ، يقول:

ولم أنسها والموت يقبض كفّها ... ويبسطها والعين ترنو وتطرق

هلال ثوى من قبل أن تمّ نوره ... وغصن ذوى فينانه وهو مورق

ويصف زيارته لقبرها وعناقه لأحجاره وترابه والأرض تدور به، وهو لا يكاد يصدّق أنها ماتت أو أن بينه وبينها حجابا صفيقا، والدموع تنهلّ على خديه، وكلّه حسرات ولوعات.

ومرّ بنا فى كتابى العصر العباسى الأول والثانى بكاء الشعراء للمدن، حين تنزل بها صواعق النهب والحريق، فقد بكوا بغداد لعهد الأمين والمأمون، وبكوا البصرة حين هجم عليها الزنج فى أواسط القرن الثالث ودمّروا مساكنها وفتكوا بأهلها. وكانت كارثة هذا العصر أعظم وأطمّ، ونقصد تدمير المغول لبغداد فى سنة ٦٥٦ إذ قتلوا من أهلها نحو مليون أو يزيدون، وأشعلوا بها الحرائق وأعملوا النهب حتى فى الكتب والمكتبات، وكان ذلك دمارا فظيعا لما كان بها من حضارة عربية وحركة علمية، أو قل كان ذلك أفولا لنجمها الذى طالما تألق فى سماء البلاد العربية جميعا، وطبيعى أن نجد من شعراء إيران من يبكون المدينة العظيمة، وفى مقدمة من بكاها منهم الشيخ سعدى الشيرازى المتصوف الفارسى المشهور المتوفى سنة ٦٩١ عن نحو مائة سنة، وهو يشتهر بكتاباته الصوفية الفارسية التى يمثلها كتاباه: جلستان وبوستان، غير أشعار فارسية وعربية


(١) ابن خلكان ٥/ ١٧٢
(٢) الدمية ٢/ ٢٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>