لا نستطيع أن نعتمد عليها فى دراسة النابغة، إنما نعتمد على ما رواه الأصمعى، ونتخذه أساسا لبحث الشاعر وشعره.
على أننا لا نكاد نمضى فى رواية الأصمعى حتى نجدها فى حاجة إلى مناقشة، فإن الأصمعى احتفظ فيها بقصيدته فى المتجردة:(أمن آل ميّة رائح أو مغتد) مع أنه كان لا يسندها كما يقول الشنتمرى. ومعنى ذلك أنها ضعيفة الرواية. ونحن لا نقرؤها حتى نجدها تتضمن غزلا مفحشا، وهو غزل لا يتفق وشخصية النابغة الوقور. ولو أن هذا اللون من الغزل كان دائرا فى شعر النابغة لأمكن أن نقبلها، ولكنه يأتى شذوذا فى هذه القصيدة، ليدلل-كما مر فى غير هذا الموضع-على خبر مصنوع، وضعه الرواة ليفسروا به السبب فى غضب النعمان بن المنذر على النابغة، إذ جعلوه يتغزل بزوجه هذا الغزل الماجن الذى يندى له الجبين، وكأنما ضاقت الدنيا على النابغة فلم يجد امرأة يتغزل بها هذا الغزل المفحش سوى زوج النعمان. ولو أن الرواة كانوا متعمقين فى فهم العصر الجاهلى وما كان فيه من منافسة شديدة بين المناذرة والغساسنة، بل لو أنهم تعمقوا فى درس شعر النابغة لعرفوا أنه اضطر اضطرارا إلى مغادرة بلاط النعمان والتوجه إلى الغساسنة حتى يفك أسرى قومه عندهم عقب معارك رجحت فيها كفة الغساسنة، بل لقد هزموهم هزيمة منكرة. وبذلك فقد النعمان داعيته فى ذبيان، وغضب عليه غضبا شديدا. وما زال النابغة عندهم، ليرد كيدهم عن قومه، حتى إذا دار الزمن وتوفى خصما ذبيان من الغساسنة، وهما عمرو وأخوه النعمان، رأى النابغة أن يعود إلى بلاط النعمان بن المنذر، لا خوفا على نفسه كما يقول الرواة، بل خوفا من تأليبه القبائل على قبيلته.
فالموقف كله كان موقفا سياسيّا، ولم يكن موقفا شخصيّا، ولذلك كنا نرد قصيدة المتجردة، كما نرد كل ما يتصل بقصة هرب النابغة من النعمان ورجوعه إليه حين علم بمرضه، ومن ثمّ كنا نشك فى قصيدته الرائية التى يقول فيها:
ألم تر خير الناس أصبح نعشه ... على فتية قد جاوز الحىّ سائرا
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يردّ لنا ملكا وللأرض عامرا
فإن الرواة وصعوها وضعا، ليصوروا لنا النعمان عليلا، ونفس أسلوبها وما فى نهايتها من دعاء يدلان على أنها إسلامية، ومن ثمّ ننكرها كما ننكر مقطوعته التى