الصورة لطبقات المجتمع الشامى متصلة طوال الحقب التالية، مع ما حدث للشام من تحول الخلافة منها إلى بغداد، ومن مشرفة على الدولة الإسلامية الكبرى إلى ولاية منذ أن استولى العباسيون على أداة الحكم. وكان من أهم أعمالهم فيها إنشاء المراكز العسكرية على حدودها مع الروم المعروفة باسم العواصم والثغور، وكانت جيوشهم ماتنى تخرج منها لحرب الروم. محدثة فيها غير قليل من الرواج التجارى.
وكان العباسيون فى القرن الأول من خلافتهم يأخذونها بغير قليل من الرفق واللين. ويروى أن بعض ولاة الخراج بها لعهد هرون الرشيد شدّد فى استخراج الأموال من أهلها فسخط عليه الرشيد سخطا شديدا وأنزل به عقابا صارما، قائلا له: وليت الشام وهى جنات وعيون وجعلتها أجرد من الصخر وأوحش من القفر. وحين ضمها ابن طولون إلى دولته فى مصر أخذت تنتعش وخاصة فى عهد خمارويه لكثرة ما كان يجرى على الناس فى رعيته بمصر والشام من الأموال ولما كان ينفقه على جيشه بها من الارزاق، وقد بنى لنفسه بالقرب من دمشق قصرا فخما. وعنى الإخشيد بالشام، كما عنى بها كافور. وكانا يكثران من الخلع والهبات على أهلها، وكانت حلب والثغور بيد الحمدانيين وفرضوا فيها ضرائب ثقيلة (١).
وتتبع بقية الشام مصر أيام الفاطميين حقبا متصلة. وعلى الرغم من أن المقدسى يقول إن ضرائب العروض والسلع التجارية فيها هينة لزمنه فى أواخر القرن الرابع الهجرى فإن من المؤكد أن الضرائب زادت واضطربت تبعا لكثرة الولاة الفاطميين وعمل كل منهم على جمع كل ما يستطيع من الأموال لنفسه، فكانت تدخل على الضرائب والجبايات زيادات ترهق الشعب الشامى إرهاقا شديدا. وبلغ هذا الارهاق غايته فى ولاية المعلى بن حيدرة الكتامى لها سنة ٤٦١، حتى هجر الفلاحون مزارعهم فى الغوطة بدمشق وغير الغوطة، وعظم شغب العامة سخطا على هذا الظلم الصارخ وشبت النار حينئذ فى الجامع الأموى العظيم، وكادت أن تذهب ببهائه ورونقه لولا أن تداركه الناس. ولعل أحدا لم يصور ما كان يقع على أهل الشام من ظلم فادح فى جمع الضرائب دون أن تستخدم فى مصالح الرعية كما صوّر ذلك أبو العلاء ساخطا بمثل قوله:
وأرى ملوكا لا تحوط رعيّة ... فعلام تؤخذ جزية ومكوس
وما نصل إلى سنة ٤٦٨ حتى تتحول دمشق إلى السلاجقة، وينحسر الحكم الفاطمى إلى
(١) اضطرت الحمدانيين إلى ذلك حروبهم مع بيزنطة. ويقول المقدسى إن الضرائب كانت ثقيلة حينئذ على العواصم والثغور وإنها كانت ثلاثمائة وستين ألف دينار.