للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجنوب. وما نكاد نشرف على نهاية القرن الخامس حتى تأتى جحافل الصليبيين وتستولى على ساحل الشام منذ سنة ٤٩٢. ويتدارك طغتكين أتابك الدولة البورية نسخة من النسخ القرآنية التى وزعها عثمان فى الأمصار كانت بطبريّة فينقلها إلى دمشق، وكان ذلك عملا جليلا زاد دمشق مجدا وجلالا، وخلص له الأمر بها. ومن أهم ما قام به بناء مارستان وخانقاه وأول مدرسة أنشئت بها. وتصبح الشام ساحة حرب كبرى أيام الصليبيين، ولا يقرّ لأهلها قرار.

وأخذ حكام الشام من الأرتقيين أصحاب دمشق وغيرهم يضيفون بعض ضرائب استثنائية لجهاد الصليبيين والإنفاق عليه. وكان طغتكين عادلا، ولكن أبناءه أخذوا يرهقون الدمشقيين بالضرائب الاستثنائية وصنع صنيعهم حكام المدن الأخرى، حتى إذا نهض عماد الدين زنكى واستولى على شمالى الشام، وكان قد أصبح خرابا من ظلم الولاة ومن حرب الصليبيين، نشر فيه العدل وفتح الرّها وامتلأت كل هذه البقاع أهلا وسكانا.

وخلف عماد الدين زنكى ابنه نور الدين محمود، وحين خضعت له دمشق وحماة وبعلبك وغيرها من المدن الشمالية أبطل كل ما كان بها من الضرائب الاستثنائية على الأسواق وما يباع فيها من الفواكه والبقول والحلوى والغنم والجبن واللبن. وسار نفس هذه السيرة بعده صلاح الدين فألغى جميع المكوس والمغارم من ديار الشام وسامح الناس فى أموال عظيمة. ووزع فى عماله منشورا جاء فيه: إن أشقى الأمراء من سمّن كيسه، وأهزل الخلق وأبعدهم من الله من أخذ الباطل من الناس وسماه الحق. وعمّ الرخاء فى عهده وعهد نور الدين ديار الشام لكثرة ما صبّا فى حجور الناس من القناطير المقنطرة من أموال حملة الصليب المدحورين. وسار بعد صلاح الدين سيرته فى حط المغارم عن كواهل الناس أخوه السلطان العادل ويقال إن مجموع ما خص دمشق من ذلك لعهده بلغ مائة ألف دينار. وقد عاد بعض هذه المغارم والمكوس فى بعض بلدان الشام بأخرة من أيام الأيوبيين وخاصة فى بعلبك ودمشق حين أظلهما حكم الصالح إسماعيل.

وقد يكون من المفارقات أن نعرف أنه على الرغم من الحروب التى كانت متصلة بين أهل الشام وحملة الصليب نشطت التجارة بينهما نشاطا واسعا، فتجار المسلمين ينزلون بلادهم وحصونهم وبالمثل ينزل حملة الصليب بلاد المسلمين حاملين لسلعهم ومشترين سلعا جديدة. وكأن الحرب شئ والتجارة شئ آخر، ويعرض علينا أسامة بن منقذ فى كتابه «الاعتبار» صورا لافتة من تواصل الحياة بين العرب المدنيين والصليبيين. ورأى ذلك ابن جبير رأى العيان ووصفه فى رحلته المشهورة متعجبا قائلا: من أعجب ما يحدّث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين: مسلمين

<<  <  ج: ص:  >  >>